في تكرارٍ لمَشاهد سبق أن خبرها اللبنانيون على امتداد الحكومات المتعاقبة عليهم، وقعت ​التعيينات​ التي كان يفترض أن يبحثها ​مجلس الوزراء​ في جلسته الأخيرة، في فخّ "المماطلة"، بعدما تمّ "ترحيلها" بحُجّةٍ عنوانها ظاهرياً طلب السّيَر الذاتيّة، فيما باطنها "التنقيب" عن توافقٍ سياسيّ بدا متعذّراً.

لكنّ "المفاجأة"، إن صحّ التعبير، جاءت من مكانٍ آخر، وتحديداً من "تصدّي" تيار "المستقبل" للتعيينات، من خلال البيان "الناريّ" الذي أصدره، ولم يتوانَ عن الحديث فيه عن "مخطط غير بريء"، تحت ستار تمرير هيئة جديدة لحاكميّة ​مصرف لبنان​ ولجنة الرقابة على المصارف، رافضاً في الوقت نفسه أن تكون بعض المواقع في الدولة، وتحديداً في مصرف لبنان، "لقمة سائغة" لأحد.

وإذا كان بيان "المستقبل" ذكّر في مكانٍ ما بتصريحات رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​، بعيد ​تشكيل الحكومة​ الجديدة، عن أنّه "مش حبّتين"، دفاعاً عن بعض المحسوبين عليه في الدولة، فإنّ ثمّة من سأل بناءً على كلّ ما سبق، عن "النموذج" المعارِض الذي يقدّمه تيار "المستقبل" بهذا الأداء، علماً أنّ البعض يرى أنّ "المستقبل"، وعلى العكس من ذلك، لا يزال "متحكّماً" بالسلطة، ولو من خارج مقاعدها التقليديّة...

خطوط حمراء...

في المبدأ، لا شكّ أنّ من حقّ أيّ فريقٍ سياسيّ، بمُعزَلٍ عن تموضعه في الموالاة أوالمعارضة، أن يتصدّى لأيّ "مخطّطٍ"، أكان بريئاً أو غير بريء، إن رأى "بوادره" تلوح في الأفق، ومن حقّه أن يختار كلّ السُّبُل الديمقراطيّة الممكنة للتعبير عن رفضه، وربما لإقناع الرأي العام بصوابيّة وجهة نظره، بما يتيح تشكيل "جبهة مواجهة"، إن جاز التعبير.

لكن، إذا كان هذا الحقّ بديهيّاً لأيّ مواطنٍ في الدولة، فإنّ بيان "المستقبل" المتصدّي للتعيينات استوقف كثيرين، تماماً كالردود عليه، والتي لم تكن أفضل حالاً، ليس فقط لاعتماده "لغة خشبيّة" كان يفترض أن تكون أصبحت من الماضي بعد "انتفاضة" اللبنانيين على السلطة، بكافة أفرعها وجزئيّاتها، ولكن لتكريسه منطق "الخطوط الحمراء"، وكأنّه أمرٌ واقعٌ لا يجوز لأحدٍ المسّ به.

هكذا، تجلّت هذه "الخطوط" أكثر من واضحة في بيان "المستقبل"، فالحزب الطامح إلى قيادة "معارضةٍ نموذجيّة" في هذه المرحلة، يرفض المسّ بما يمكن تصنيفها "ودائع" لها، أقلّه برأي شريحةٍ معارضةٍ للتيّار "الأزرق"، وهو رأيٌ يعزّزه سلوك "المستقبل" ولا يدحضه. ولعلّ الدليل الأبرز على ذلك ما يأتي في صلب البيان وأساسه، من أنّ "هناك مواقع في الدولة، وتحديداً في مصرف لبنان، لن نرضى أن تكون لقمة سائغة لأيّ جهة سياسية مهما علا شأنها"، بل أنّ "أيّ محاولة للتلاعب فيها أو تقديمها هدايا مجانية لهذا الطرف أو ذاك لن تمرّ مرور الكرام".

وقد لا يكون مثل هذا الكلام غريباً، بعدما آثر رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري استقبال تشكيل الحكومة الجديدة، بفرض "خطوط حمراء" بالجملة، على من يوصَفون بأنّهم "رجاله"، بمُعزَلٍ عن مدى دقّة مثل هذه التصنيفات، حين قال إنّه "مش حبّتين"، في إشارة لا لبس فيها إلى رفضه المسّ بأيّ منهم، ولا سيما المدير العام ل​قوى الأمن الداخلي​ ​اللواء عماد عثمان​، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وغيرهما، علماً أنّ المفارقة التي لا بدّ أن تُسجَّل في هذا السياق، أنّ رئيس الحكومة حسّان دياب سارع إلى "تلقّف" الرسالة، ولم يتأخّر في تقديم "الوعود" بالحفاظ على هؤلاء، "برموش العين"، حتى قبل أن تحصل حكومته على الثقة المطلوبة.

القديم على قدمه!

غامزاً من قناة "​التيار الوطني الحر​"، الحليف والشريك اللدود السابق والخصم الشرس اليوم، حرص تيار "المستقبل" على وضع التعيينات المُرحَّلة في حاكمية مصرف لبنان، في خانة "تلبية رغبات فريق سياسي"، قال إنّه "لطالما حاول وضع اليد على هذا المرفق الوطني والاقتصاديّ الحسّاس".

وبمُعزَلٍ عن ردّ "التيار" الذي رفضت مصادره الاتهام من أصله، جملةً وتفصيلاً، نافية أصلاً وجود أيّ اسمٍ محسوبٍ على "الوطني الحر" بين "البدائل" المقترحة للتعيين، ثمّة من ذهب أبعد من ذلك، بالسؤال عن مغزى "الغيرة" المستجدّة، والمفاجئة، التي يمارسها "المستقبل"، والذي كان يُتّهَم حتى الأمس القريب، أي ما قبل السابع عشر من تشرين الأول، بأنّه "الوصيّ" الأول على تلبية رغبات الفريق السياسي الذي يشكو منه اليوم.

ويذكّر هؤلاء كيف أنّ الحريري بالتحديد هو "المدافع الأول" في الحكومة عن كلّ قرارات "التيار"، ولا سيما الوزير ​جبران باسيل​، حتى عندما كان الأمر يتعلق بصلاحيّاته الشخصية، حيث كان بعض المحسوبين على الحريري نفسه يعمدون إلى "التباكي" على الصلاحيّات، ليفاجئهم "الشيخ سعد" تارةً بالصمت، وطوراً بدحض الاتهامات، بل تأكيد العلاقة المتينة مع باسيل، والتي لن ينجح أحدٌ في هزّها.

وإذا كان "الانقلاب" في المواقف بين هذا وذاك طبيعياً، باعتبار أنّ لا ثبات في السياسة، وانطلاقاً من التغيّر الواضح في تموضع الفريقَيْن، فإنّ هناك من يرى أنّ على "المستقبل" اليوم أن يقتنع بأنّه بات في صفوف المعارضة، لا السلطة، ولو كان كثيرون في الحكومة اليوم، وربما الغالبية فيها، يسعون إلى تقديم "الهدايا المجانية" له، وربما يعملون لعودته إلى السراي في أقرب فرصةٍ ممكنة، مهما جاهر هو شخصياً برفض مثل هذا السيناريو.

وفي وقتٍ يرى البعض أنّ الهدف من الهجوم "المستقبليّ"، المدعوم بطبيعة الحال من العديد من الأطراف من داخل الحكومة، لا يعدو كونه "فرملة" التعيينات، تماماً كما كان يحصل في السابق، وبالتالي "إبقاء القديم على قدمه"، فإنّ الاعتقاد السائد لدى كثيرين أنّ مثل ذلك لا يتناغم مع مقتضيات "الفرصة" أو "مهلة السماح" الممنوحة للحكومة، والتي يفترض أن تُمنَح الضوء الأخضر لتمارس عملها، بعيداً عن الرقابة والتشويش، ليُحكَم عليها على أساسه، إلا إذا كانت تريد أن تكون "نسخة" أخرى من حكومة نجيب ميقاتي مثلاً، والتي يبالغ البعض حين يقول إنّها حقّقت أهداف "الحريرية السياسية"، أكثر من حكومات الحريري نفسه...

المشكلة في الذهنيّة!

على الأرجح، ليست المشكلة في أنّ بيان "المستقبل" الذي يتصدّى للتعيينات المزمعة، يبدو صادراً عن فريقٍ في الحكم أكثر منه في المعارضة.

ليست المشكلة في أنّ "المستقبل" يسعى إلى التحكّم بالسلطة من مقاعد المعارضة، وقد يكون ذلك حقّاً بديهياً له، إذا نجح في أدائه بإتقان واحترافيّة.

المشكلة تكمن في مكانٍ آخر، وتحديداً في الذهنيّة السياسيّة والشعبيّة، التي لا تزال متوقّفة عند ما قبل السابع عشر من تشرين الأول، بمُعزَلٍ عن تركيبة الحكومة الحاليّة، وطبيعة "الانتقالات" التي أحدثتها بين صفّي الموالاة والمعارضة.

هي الذهنيّة التي تصرّ على "إبقاء القديم على قدمه"، ولو تحت ستار حكومةٍ تقول إنّها جاءت من رحم حراكٍ شعبيّ منتفضٍ وثائر على كلّ ما سبق، وإبقاء القديم على قدمه ليس محصوراً بهذا المعنى بالأسماء، بل يشمل "نهج" المحاصصة، الذي لم توحِ جلسة مجلس الوزراء الأخير بأيّ تغييرٍ، ولو شكليّ، على خطّه...