فرض "التَّعلم عن بُعد" نفسه أَمرًا واقعًا، في ظرفٍ دوليٍّ وبائيٍّ استثنائيٍّ، مع تفشِّي فيروس "كورونا المُستجدّ" عالميًّا. وعليه، فمن المُؤَكَّد أَنَّ ما بعد ​القضاء​ على تفشِّي الوباء، ليس كما قبل تطوافه بين الدُّول الموبوءة، حاصدًا أَرواحًا في غالبيَّتها من المُسنِّين أَو ضعيفي المناعة، أَو المُستسلمين للاحباطـ أَو قليلي الإِيمان...

رحَّب البعضُ بهذه "المُوضة" ​الجديدة​، وبهذا النَّمط الجديد من التَّعلُّم، الآتي إِلينا من الباب العريض، وانتقد التَّجربة البعض الآخر في شدَّةٍ، وصولاً إِلى اتِّهامها بـ"إِمرار برامج وإعتماد مناهج خارج الاعتراف والاعتماد الأَكاديميّ"، وتحدَّثُوا عن "مغامرة التَّعليم عن بُعد إِذا لَمْ تُوضع ضوابط استباقيَّة لهذه العمليَّات"، في إِشارةٍ إِلى التَّعلُّم عن بُعد، وصولاً إلى وصفها بـ"عمليَّات تبييض شهاداتٍ لا أَكثر"... فهل هي كذلك؟ وهل نحن أَمام تبييضٍ للشَّهادات؟ أَم تُرانا أَمام القول القديم الشَّائع (مَن يريد أَن يتعلَّم، يُمكنه ذلك حتَّى ولو تلقَّن العلم تحت الشَّجرة)، فكيف بالحريِّ إِذا ما وجد المُتعطِّش إِلى المعرفة والتَّطوُّر الذَّاتيّ نفسه، مُحاطًا من كُلِّ حدبٍ وصوبٍ، بوسائل التَّواصل التِّكنولوجيِّ الموفورة في عصرنا؟ وهل نحن الآن في زمن مُحاكمة التَّعلُّم عن بُعدٍ؟، وهل يكون "التَّعلُّم عن بُعدٍ"–إلى جانب "فيروس ​الكورونا​ المُستجدَّة"، من خصائص العام 2020 ومحطَّاته البارزة، كوباءٍ فرض مُعالجةً تربويَّةً في غُرفة إِنعاش العام الدِّراسيِّ؟.

بدايةً، لا بُدَّ من التَّوضيح وبالتَّالي التَّمييز، بين الوسيلة المُعتَمَدة "للتَّعلُّم عن بُعد": هل هي مثلاً عبر جهاز التِّلفاز؟، أَم عبر ​الحاسوب​؟. وكذلك وجب الأَخذ في الاعتبار، المرحلة العُمريَّة لمُتعلِّمي ​المدارس​ أَو طلاَّب ​الجامعة​، الخاضعين للتَّعلُّم عن بُعد؟ والمُستوى الأَكاديميّ لهذه المُؤَسَّسات المدرسيَّة أَو الجامعيَّة، القادرة على توفير هذه الخدمة التَّعلُّميَّة عبر الحاسوب، ووفق الشُّروط المطلوبة؟...

وفي المُطلق نقول: لا أَحد يزعم اليوم، أَنَّ نظام "التَّعلُّم عن بُعد" هو الأَمثل... غير أَنَّنا نمرُّ الآن في ظُروفٍ استثنائيَّةٍ، ولا نملك رفاهيَّة الوقت للجدل العقيم، وسط ظروفٍ شبيهةٍ بما نمرُّ فيه... وكذلك فلا جدوى للسِّجال الإِعلاميِّ، في مواضيع تربويَّةٍ واستحقاقاتٍ داهمةٍ وبالغة التَّعقيد، توجب على التَّربويِّين "سكب" مهاراتهم التَّعليميَّة في الإِطار المُتوافر والواقعيِّ...

إِلى ذلك فثمَّة الكثير من المُهتمِّين بتطوير مهاراتهم المهنيَّة وفي كُلِّ المَجالات، من الّذين تمكَّنوا من ​تحقيق​ أَهدافهم التَّعلُّميَّة، عن طريق "التَّعلُّم الذَّاتيّ عن بُعد"!. وثمَّة دوراتٌ تعلُّميَّةٌ أَسهمَت في تطوير المهارات المهنيَّة -كما والأَكاديميَّة- لطالبي الاستفادة من هكذا أُسلوبٍ تعلُّميٍّ. ولم تقتصر تلك الدَّورات على نطاقٍ مُعيَّنٍ، بل تجلَّت في مجالاتٍ مُختلفةٍ، ومنها -على سبيل المثال لا الحصر- التَّربية.

وفي هذا الإطار، يُطلب إِلى المُشاركين في الدَّورة، تنفيذ عددٍ من الواجبات، خلال زمنٍ مُحدَّدٍ، يمتدُّ على أَيَّام الدَّورة. وبمُوجب التَّواصُل الدَّوريِّ المُباشَر –عبر الإِنترنِت– وبعد تقييم أَداء كلٍّ من المُشاركين في التَّعلُّم عن بُعدٍ، يُمنَح مَن يستحقُّ الشَّهادة، بفضل المجهود الشَّخصيِّ المبذول... حتَّى وإِن لم يُعاين الخاضعُ للدَّورة طلبًا للشَّهادة، الأُستاذَ المُشفرف على تعليمه إِلاَّ من خلال بعضٍ من شاشة الحاسوب!... غير أَنَّ هذه "العمليَّة" هي "كالقُبلة النَّاجحة، يستحيل تنفيذها من جانبٍ واحدٍ"!. هي تفترض توافر مؤسَّسةٍ جامعيَّةٍ أَو أَكاديميَّةٍ مُحترمةٍ من ناحيةٍ، وطلاَّبٍ غايتهم التَّعلُّم من ناحيةٍ أُخرى... وإذَّاك، فأَين المُشكلة إِنْ طُبِّقت هذه الوسيلة التَّعلُّميَّة في بلدٍ كلُبنان؟، علمًا أَنَّ عوائق كثيرةً تحول دون "التَّعلُّم عن بُعدٍ" عبر الحاسوب في ​لبنان​، ومنها بطء خدمة "الإِنترنت"، وارتفاع ثمنها، ورداءة خدمتها...

التَّعلُّم التِّلفزيونيّ

وخلافًا للتَّعلُّم عبر "الإِنترنت"، فإِنَّ "التَّعلُّم التِّلفزيونيّ عن بُعدٍ"، يبقى الأَمثل في ​حالات​ الطَّوارئ ووضعيَّات الحجر المنزليِّ والتَّعبئَة العامَّة... شرط إِضفاء التَّفاعُل البنَّاء والتَّواصل المُستمرّ على هكذا نوعٍ من "التَّعلُّم عن بُعدٍ"، بين المُعلِّم والمُتعلِّم، من خلال البريد الإِلكترونيِّ الخاصّ بالمسار التَّعلُّميِّ، أَو عبر استخدام خدمة الـ"واتسأَب".

وما يصحُّ بالنِّسبة إِلى "التَّعلُّم تلفزيونيًّا عن بُعدٍ"، لا يصحُّ بالضَّرورة في حال التَّعلُّم عبر الحاسوب، لما في ذلك من معوقاتٍ غير تلك الَّتي ذكرناها في السِّياق التِّقنيِّ... إِذ إِنَّ نسبة المُتعاطين مع التَّعلُّم عبر الحاسوب عن بُعدٍ بخفَّةٍ واستخفافٍ وبعدم جديَّةٍ، تفوق بكثيرٍ المُستفيدين من هذه الخدمة من الطُّلاَّب الجديِّين والرَّصينين!. وقد يكون من الأَسباب في الإِخفاق الحاصل، عدم التَّأَقلم بعد، مع هذه الوسيلة التَّعلُّميَّة الحديثة، أَو قد تكون الحاجة ماسَّةً وضروريَّةً، إِلى إِيجاد التَّوليفة بين أَركان هذا النَّمط التَّعلُّميِّ، وإِدخالها إِلى النِّظام التَّربويِّ، ووضع ضوابط تُحكم السَّيطرة على كُلِّ المسار التَّربويِّ... ولرُبَّما تكون فئة المُتعلِّمين من صفوف الشَّهادة الرَّسميَّة (المُتوسِّطة أَو الثَّانويَّة العامَّة) ممَّن لا تسمح لهم ظُروفهم الاجتماعيَّة بـ "ترف الانترنت"، هم الأَكثر تعطُّشًا إِلى العلم ولو عن بُعد وعبر التَّلفاز... هؤلاء هم المُستعدُّون للتَّعلُّم ولو في ظلال الشَّجرة!.

واستنتاجًا، فإِنَّ التَّعلُّم عبر "الإِنترنت"، أَكثر فضحًا للفشل من التَّعلُّم عبر التِّلفاز. فالتَّفاعُل المُفترض بين المُعلِّم والمُتعلِّم، وصولاً إِلى رصد تعابير الوجه ونظرات العينين... عبر الشَّاشة، يسمح بتقييم الاستثمار التَّعلُّميِّ ومدى الاستفادة من الحصص... فيما تكون صورة المُعلِّم وحدها على شاشة التِّلفاز، بما لا يسمح بمعاينة الطَّرف الآخر من العمل التَّعلُّميِّ، إِلاَّ إِذا استُتبع الشَّرح بواجباتٍ، أَو بما نُسمِّيه نحن في "جائِزة الأَكاديميَّة العربيَّة" (تحدِّيات)، على المُتعلِّم تحقيقها إِثباتًا لاكتساب المهارات المطلوبة. وحتَّى في هذه الحال لا يمكن معرفة مَن قد يُنفِّذ هذا التَّحدِّي عن المُتعلِّم!...

كما وأَنَّ في لبنان، مخاوف من مسأَلة تَزويرِ الشَّهاداتٍ وإِعطاءِ إِفاداتٍ، لِطُلاَّبٍ لَمْ يَتَسَجَّلوا في المُؤَسَّسة التَّربويَّة أَو الجامعة، وبَعْضُهمُ لَا يَعْرفُ حتَّى عُنوانَ الجامعة المُفترض أَنَّه قد تسجَّل فيها... وهذا احتمالٌ قائمٌ، غير أَنَّ ذلك لا يحول دون العمل بجدٍّ لتذليل العقبات أَمام التَّعلُّم الجامعيِّ عن بُعد، وبواسطة خدمة "الإِنترنت"، أو في ابتكار توليفةٍ تجمع بين حصص التَّحصيل الجامعيِّ، الَّتي توجب الحُضور، وتلك الَّتي يُمكن تحصيلها عن بُعد. وفي مُطلق الأَحوال لا بُدَّ من النَّظر بجديَّةٍ وحزمٍ، في الواجبات الَّتي ينبغي على طالب الشَّهادة الجامعيَّة أو المُشارك في الدَّورة عن بُعد تحقيقها، استحقاقًا للتَّرفُّع التَّعلُّميِّ.

يبقى أَنَّ التَّشديد على "التَّعلُّم عن بُعدٍ" ليس بهدف إِظهار عضلاتنا في مجالات التَّطوُّر التِّكنولوجيِّ، وإِنَّما لدواعٍ اقتصاديَّةٍ ومعيشيَّةٍ، إِذ إِنَّ "التَّعلُّم عن بُعدٍ" يُفترض أَنْ تكون تكلفته تنافسيَّةً، من حيثُ المبدأِ، ما من شأنه خفض الفاتورة الجامعيَّة في ظلِّ هذه الأَوضاع الصِّعبة، شرط عدم اقتران ذلك بتدنٍّ في المُستوى التَّعليميِّ الجامعيِّ، لأَنَّ نوعيَّة التَّعليم تبقى على رأْس سُلَّم الأَولويَّات!...

وإلى ذلك الحين، وبالنَّظر إِلى أَنَّ الظُّروف قد أَفضت إِلى اللُّجوء إِلى "التَّعلُّم عن بُعدٍ"، وبالتَّالي فقد بات من المُناسب جدًّا الشُّروع في تعبيد الطَّريق أَمام "تعلُّم عن بُعدٍ" يكون أَكثر مُلاءمةً للظُّروف الرَّاهنة، وبجودةٍ عاليةٍ، وفاتورةٍ جامعيَّةٍ أَقلّ!.