أقدم اعتذاري لكم نحن الآن إلى جانبكم.

بهذه الكلمات بدأت "اورسولا فان درلاين" رئيسة ​المفوضية الأوروبية​ رسالتها للإيطاليين، معتذرة عن تقصير ​الاتحاد الأوروبي​ في تقديم المساعدة اللازمة لمواجهة جائحة ​كورونا​.

اللافت أن ​ايطاليا​ لم تكن ​الدولة​ الوحيدة من بين الدول ضمن ​الاتحاد الاوروبي​ التي طلبت المساعدة في مواجهة وباء كورونا، لكن من دون معين وفجأة وجدت تلك الدول الأوروبية المبتلاة بالوباء متروكة وحيدةً تصارع الموت البطيئ، فيما أظهر الاتحاد الأوروبي عجزاً لا سابق له في مواجهة جائحة كورونا التي تهدد حياة الملايين من البشر، بمعنى آخر أظهر عجزاً عن مواجهة الصعاب والكوارث غير المالية التي تواجه دول الاتحاد، في إشارة واضحة إلى أن فكرة قيام الاتحاد، لم يكن الهدف منها حماية ​الإنسان​ وتفعيل العلاقة وتشبيك مصالح الشعوب أو العمل من أجل تعزيز التنمية البشرية والبحث العلمي والتقدم الإنساني في ​أوروبا​.

أزمة كورونا أظهرت وهن الاتحاد الأوروبي، وقلة حيلته بعد انكشافه أمام الانتشار السريع للوباء، قابله فشل عملية الاحتواء وحماية الإنسان، خصوصاً بعدما ثبت عقم نظام تأمين الرعاية الصحي المتبع في الاتحاد.

إن فكرة قيام اتحاد بين الدول في أوروبا، جاءت بهدف تشبيك وإدارة مصالح الشعوب، ل​تحقيق​ كتلة صناعية اقتصادية مالية أوروبية مؤثره تمكنها من حجز حصة لائقة على خارطة الصراعات في النظام العالمي السائد، وايضاً للوقوف بوجه الغزوة الصناعية ​الصين​ية، إلا أن الاتحاد الأوروبي نفسه تحول الى مصانع عسكرية وشركات نفطية وتكنولوجيا معلوماتية وتأمينات ومشاريع عقارية عملاقة، همها الحصول على الصفقات الكبيرة لحصد المليارات وتثبيت النفوذ وتحقيق الربحية فقط، أما الدول الأوروبية المركزية، فقد انحسر دورها وتحول همها إلى تجميع أموال ​الضرائب​ واستعمال الإنسان كآلة منتجة تعمل لصالح الشركات الكبرى ولا تحتاج إلى صيانة تليق بهذه الآلة.

في مواجهة أزمة كورونا، ظهر الاتحاد الاوروبي دون المستوى الذي أنشئ من أجله، وبدا كعملاق من ورق تهاوى في أول مواجهة جدية هددت حياة الإنسان فيه.

مع بداية تفشي وباء كورونا مارست دول الاتحاد الأوروبي حالة من نكران الاعتراف بخطورة الجائحة، وانتهجت سلوكاً متردداً في اتخاذ الإجراءات المناسبة، بعد إخفاء حقائق تفشي الجائحة خوفاً من الانعكاسات السلبية وحفاظاً على استمرار مكاسب الشركات و​المصانع​، وذلك على حساب حماية حياة ​الانسان​ فيها، وأمام الإفراط بالثقة بالنظام الصحي الذي كان سائداً، جاءت كورونا لتكشف عجز تلك الدول والاتحاد ككل، خصوصاً بعد تفشي الوباء وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا.

نحن لا نتحدث هنا عن دول من العالم الثالث أو عن دول نامية، بل إننا نتحدث عن دول كبرى مثل ​بريطانيا​ و​إيطاليا​ و​فرنسا​ و​ألمانيا​ و​إسبانيا​ وغيرها من الدول التي لطالما احتلت الصدارة في العالم في قيمة الدخل الفردي، والتقدم الحضاري والثقافي والبيئي والبحث العلمي، تلك الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الاوروبي، واللافت أنها لطالما تغنت في الدفاع عن الإنسان وتأمين مستقبله وحماية البشرية، وتباهت بنظامها الاقتصادي الضريبي وخدمته للمواطن ومساهمته في تعزيز قدرات التنمية البشرية فيها، واتحدت في كيان كبير أسموه الاتحاد الاوروبي.

في المرحلة الأولى من تفشي الوباء، غابت روح الاتحاد وتبخرت واجبات الشراكة والتضامن وانكفأت كل دولة إلى الداخل، تعالج ما أصابها بما تملك من قدرات ذاتية بمعزل عن ​منظومة​ الاتحاد الأوروبي، وذلك بعدما تعذرت تلك المنظومة ذاتها عن تأمين العون أو تقديم المساعده لإغاثة الدول المنكوبة بتفشي الوباء، وهنا ساد التساؤل عن مدى ​الفائدة​ من ذلك الاتحاد الذي أظهر عقمه، في حين أن كلاً من الصين المكلومة و​روسيا​ وكوبا استجابت لطلب الإغاثة الفورية وشكلت ما يشبه جسراً جوياً و نظمت رحلات مضاعفة بالقطارات من أجل تقديم المساعدة لإنقاذ دول أوروبية من الكارثة.

كثيرة هي التحليلات والتوقعات في زمن الجائحة، وقد أبرزت معظمها توافقاً على أن ما بعد كورونا لن يكون كما قبله، لكن هناك من ذهب في تحليله إلى أبعد من ذلك متوقعاً بروز تحولات كبيرة وانهيار نماذج اقتصادية وسياسية، وعودة إلى دور الدولة القادرة، وانتهاء العولمة بصيغتها الحالية، ووصل الأمر بالبعض إلى استشراف تفكك الاتحاد الأوروبي.

ومن هنا جاء قرار ​مجموعة العشرين​ ضخ “أكثر من خمسة تريليونات ​دولار​ في ​الاقتصاد العالمي​، وذلك كجزء من السياسات المالية والتدابير الاقتصادية وخطط الضمان المستهدفة لمواجهة ​الآثار​ الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والمالية للجائحة، وفي سياق متصل أصدرت "اورسولا فان درلاين" رئيسة المفوضية العليا للاتحاد الاوربي بياناً دعت فيه إلى تشكيل صندوق دعم مالي خاص لمعالجة آثار الجائحة في أوروبا، في محاولة لإبراز الجدية من أجل الحفاظ على تماسك الاتحاد وإعادة ترميمه بخطة جديدة تتلائم مع التحديات التي خلفتها أزمة كورونا على مجمل الأصعدة، الصحيه والبيئية والاقتصادية والصناعية، وحتى على صعيد وضع الإمكانات والجهوزية لمواجهة احتمال تفشي الأوبئة مستقبلاً، ومواجهة الكوارث الطبيعيه كالزلازل و​الفيضانات​ والحروب.

مما لا شك فيه أن استمرار تماسك الاتحاد الأوروبي في صيغته الحالية قد يبدو مستحيلاً، خصوصاً بعد سيل من التساؤلات و الانتقادات التي ستواجه الاتحاد، والتي عبرت عن الكثير من الإحباط جراء الكشف عن التقصير والتردد نتيجة اعتوار في بنية منظومة الاتحاد الاوروبي، لجهة الاهتمام وحماية حياة الانسان وتفعيل ​الضمان الصحي​ بكل متطلباته، خصوصاً بعد انكشاف ​العجز​ والوهن الذي أصاب دوله، جراء إهماله في وضع الدراسات و الخطط الآيلة الى تمتين الجبهة الداخلية ب​المستشفيات​ و​المستلزمات الطبية​ ودراسة الاستعدادات لأخذ الاحتياطات الضرورية اللازمة، في حال وقوع الكوارث ومواجهتها.

نستطيع القول إن التحالفات والاتحادات بين الدول قد تصدعت، أو هي في طريقها إلى التصدع، خصوصاً بعدما كشف وباء كورونا عن هشاشة الاتحادات التي تقوم على أسس تحقيق الأرباح المادية على حساب حياة الانسان، وأضحت أمام تحد جديد يعتبر الأسوأ في تاريخ العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، في توصيف أطلقه الأمين العام للأمم المتحده أنطونيو غوتيريش.

على الرغم من جهود المفوضية العليا في الحفاظ على تماسك الاتحاد رغم التصدع الذي حصل، فإنه من المحال استمرار الاتحاد في صيغته الحالية، دون ادخال التعديلات اللازمه التي من شأنها أن تشفي غليل اتهامه بالتقصير، وقبل اتضاح صورة حجم الانعكاسات السلبية التي نالت من الاتحاد نفسه ككتلة ماليه اقتصادية سياسية حضارية، لها مكانتها على خارطة السياسيات العالمية، خصوصاً في ظل الصراع المتصاعد بين العملاقين الأمريكي المتعثر الذي لم يقدم شيئاً لدول الاتحاد، والصيني الصاعد المستجيب لطلبات المساعدة.

وبناء عليه، فإنه من الصعب التنبؤ بمستقبل الاتحاد الاوروبي، خصوصاً في صيغته الحاليه، ما لم يتم إدخال عناصر جديدة على مختلف المستويات، من شأنها معالجة الفجوات و احتواء مكامن الخلل في بنية الاتحاد، لجهة حماية الإنسان واصلاح الاعتوار الذي بدا ظاهراً.

"جوسبي كونتي" رئيس ​الحكومة​ الإيطالية وفي أول تصريح له لقناة البي بي سي قال: إن الزعماء الأوروبيين على موعد مع التاريخ ولا ينبغي لهم التخلي عنه. واضاف "إذا لم نغتنم الفرصة من أجل بعث حياة جديدة في المشروع الأوروبي، فإن هناك مخاطر حقيقية بفشل المشروع برمته .