ومِن جَنبِ ​الإنسان​، أخَذَ الربُّ الإله إحدى أضلاعِه، وبَنَى منها إمرأةً، فَصَارَ الإنسانُ وإيّاها جَسداً واحداً (راجع تك 2، 21-22). تِلكَ كانَت حَوّاءُ، التي جُبِلَتْ بِيَد القديرِ الطاهرةِ النَقيّةِ، وعلى يَدِّ المُجرِّبِ، وَقعَتْ في بَراثِنِ الخطيئةِ، شَهوَةً لِثمرةٍ وَرَغبةً في الألوهيّة. ففَقدَتْ نِعمةً مِن الربِّ وَهَبَها لَها، وَباتَتْ للموتِ أُمّاً وحاضِنَة. وبِيَدِ إثمِ أحدِ أبنائها، حَربَةٌ طَعنَتْ جَنبَ المصلوبِ، فَخرَجَ مِن وَقتِهِ دَمٌ وماء (يو 19، 31)، فوُلِدَتْ الكنيسة، زَوجةً طاهرةً للمسيحِ، وأُمّاً مقدّسةً، تَلِدُ مِن رَحْمِ تعازيها أبناءَ النورِ، ومِن ثَديِ أسرارِها، تُغذّيهِم نِعمةً وغُفرانا. دَمٌ يَرمُزُ للإفخارستيا، مَنبعُ الحياةِ وقوّةُ المؤمنين، وماءٌ يَفيضُ مِن جُرنِ المعموديّةِ، لِيَلِدَ أبناءً للهِ بالتّبني (تعاليم القديس يوحنا الذهبي الفمً).

وفي اللّيلةِ التي أُسلِمَ فيها، أو أَسلَمَ نَفسَهُ طَوعاً، أَخَذَ الخُبزَ بِيَدَيهِ المُقَدَّسَتَين، وَأعطاهُ تَلاميذهُ جَسَداً يُبذَلُ قوتاً وللطريقِ زاداً، ودَمُهُ المُراقُ خَلاصاً، كَأسَ بَركَةٍ، يَتَفجَّرُ بِداخِلِهِم يَنابيعَ حَياة (1كور 11، 23-25؛ متى 26، 26-28). تلكَ اليَدان، بَسطَهُما على الصّليبِ، فَعُلِّقَ عَليهِ مُسمَّراً، خَشبَةَ عارٍ، ومَساميرَ أَلَم وَضغينة، وتاجَ شَوكٍ يَعلو هامةَ مَلِكِ المَلائِكة. وَكأَنَّ تِبنَ المَعلَف، الذي خَدَشَ جَسَدَ الطّفلِ الرّغيد، تَصَلَّبَ مع السّنين، وَتَحوَّلَ إكليلاً تَحفِر شوكاتِهِ يَنابيعَ دمٍ طاهِرة، تدفّقَت على وجهِهِ راسِمَةً عَلامات الفِداء. يَدان لمَسَت الأَبرص فَمَنَحَتهُ الشِّفاء، والأَعمى أَهدتهُ النّظر، والكَسيحَ حَبتهُ السّلامة فَقامَ وَحَملَ فِراشَهُ وَمَشى، ومَع المَجدَلِيّة أَبرأتَ الإِنسانَ مِن خَطيئَتِهِ، فَحَرَّرتَهُ، وَمع لَعازَرَ أقمتَهُ مِن كَبوَتِهِ، لِيَعودَ سَليماً مُعافى. يَدانَ مَبسوطَتانِ على صَليبِ الألَم، لِتجمَعَ ما تَشتَّتَ وتَفَرَّقَ من شعبِ اللهِ وتُعيدَهُ إلى حَظيرةِ الخِراف.

وبِخليطٍ مِن المُرِّ والعُودِ، طَيَّبوا جسدَ يسوع وكَفَّنوهُ، كما جَرَتْ العادةُ وَوَضعوهُ في قَبرٍ جديدٍ، لَمْ يُدفَنْ فيه أحدٌ مِن قَبل. فَذاقَ مَثوى الأمواتِ، دُونَ أن يَثلمُهُ الموتُ، وأُوصِدَ البابُ بِحجرٍ، وتأهّبَ الحَرَسُ لِيَسهَروا على الراقِدِ، خَوفاً مِن سَرقةِ جُثمانِه. وهَا هُم أثْقَلَ النومُ جُفونَهم، فَتَدَحرَجَ الحَجَرُ وقامَ الربُّ وغَلَبَ الموتَ، وكَسَرَ شوكَتَه، فكانَ بِكرُ القائمين، تاركاً قبراً فارغاً شهادةً حيَّةً للأزمنةِ والى الأبد.

وهُناكَ في صَمتِ القُبورِ وَفي عَتمَة غَورِها، صَدَحَ صَوتُ الغالِبِ يُنادي فيَقول: وأَنتَ أيُّها النّائِمُ قُم لِيُضيئَ لكَ المَسيحُ، رَقَدَ بِالقُربِ مِنكَ فَزارَ مَثواكَ، لِيَنهضَ بِكَ مِن غَفوَتِكَ إلى صَحوَتِهِ، وَمِن عَذابِكَ إلى راحتِهِ، وَمِن حَضيضِكَ إلى عَليائِهِ، وَمِن تُرابِكَ إلى سمَائِه، ومن انهزامِكَ إلى نَصرَتِهِ، وَمِن عَتمَتِكَ إلى نورِهِ، وَمِن مَحدودِيَّتِكَ إلى أبديَّتِهِ، ومِن نِقصِكِ إلى كمالِه، وَمِن بشرِيَّتِكَ إلى لاهوتِهِ.

وَبَكَتْ عَينايَ حُزناً لِألمِكَ، فَأغمَضْتُ جُفوني طَلَباً لِراحةٍ وَبَحثاً عن مَلاذ، وَدَخلْتُ عُمقَ أعماقي، فَوَجَدْتُك هُناك. كُنتَ لي الراحةَ والعَزاءَ، والطُمأنينةَ والنّقاء. وَفَتَحْتُ عَينيَّ ألماً لحُزنِكَ، وها أنا أمامَ واقعٍ مؤلِمٍ مُوجِعٍ: عَويلٌ وَبُكاء، غِشٌّ ورِياء، فَأغمَضْتُها مِن جَديدٍ ومِن جديدٍ ها أنتَ هُناك. أَرَدْتُ لَومَك على ما تُعاني البشرّيةُ، والعالمُ أجمَع، تحتَ وَطأةِ وَباءٍ شَلَّ مَفاصِلَها وَمزَّقَ أَوصالَها، وكأنَّكَ غائبٌ عمَّا يَحدُث. فَتَراءَيْتَ لي وأنتَ تُسكِّنُ العاصفةَ فتَزجُرُ الريحَ ثُمّ تقولُ لتلاميذِك: »ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف ؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟« (مر 4، 39-40)، لا لَنْ أكونَ مِثلَ توما، يَسعى أن يُصدِّقَ بِوضعِ إصبَعِهِ، ولا مِثلَ مَجدليَّةٍ تَبحَثُ بين القُبورِ عَن القائمِ، بَل كاللِصِّ أعترفُ لَكَ، أُذكُرني يا ربُّ متى أتيتَ في ملكوتَك. فَبَكَيْتُ مِن جَديد وَرَفَضْتُ أن أُغمِضَ عُيوني، مُتَوَسِّلاً إليكَ أن تُعينَ قِلَّةَ إيماني، وتجعَلَ منّي شاهِداً صادِقاً لِغَلَبَتِكَ، حتّى على الموتِ، فأصرُخْ: "المسيحُ قام، هللويا، حَقّاً قام، هللويا، وجَعَلَني شاهِداً على قِيامَتِه المجيدة، هللويا هللويا هللويا".