لا يعرف اللبناني اليوم إذا كان عليه أن يقلق من إلتقاط وباء ​كورونا​، أو من عدم تمكّنه من تأمين أدنى المُتطلّبات المَعيشيّة والحياتيّةلنفسه ولعائلته، أو من خسارة أمواله في ​المصارف​، إلى ما هناك من هُموم ومشاكل تقلقه نهارًا وتحرمه النوم ليلاً، للأسف الشديد! وإكتمل المشهد السلبي مع إنهيار قيمة العُملة الوطنيّة بشكل سريع، وتجاوز سعر صرف ​الدولار​ الأميركي عتبة الثلاثة آلاف ليرة. فماذا يعني ذلك، وهل سيستمرّ تصاعد الدولار؟.

أوّلاً: إنّ إرتفاع سعر صرف الدولار أفقد الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيّين قيمة رواتبهم، بحيث أنّ القُدرة الشرائيّة إنخفضت إلى مُستوى مُتدنّ جدًا، بفعل إرتفاع الأسعار بنحو الضُعف، والحبل على الجرّار. وإذا إستثنينا الفئات التي فقدت وظائفها أصلاً، وتلك التي باتت تعمل جزئيًا وبنصف راتب أو أقلّ، فإنّ الفئة التي لا تزال تعمل وتقبض راتبها بالليرة اللبنانيّة، فقدت عمليًا أكثر من نصف راتبها. وكلّ الزيادات التي لحقت برواتب ​القطاع العام​، بشقّيه المدني والعسكري، تبخّرت بفعل التضخّم الذي حصل، كما حذّر أكثر من خبير إقتصادي عشيّة إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​ من دون أيّ تغطية ماليّة مَدروسة. و​القطاع الخاص​ الذي لم يستفد أصلاً من أيّ زيادة، يدفع ثمنًا أكبر لخسارة قيمة العُملة الوطنيّة، حيث أنّ رواتب مُوظّفيه لم تعد تؤمّن لهم الحدّ الأدنى المَطلوب من الحياة الكريمة، الأمر الذي ألغى الطبقة الوُسطى،ورفع نسب العائلات الفقيرة في لبنان بشكل كبير وخلال فترة زمنيّة قصيرة جدًا.

ثانيًا: بالنسبة إلى الودائع بالعملة الوطنيّة والتي تبلغ ما نسبته 32 % من إجمالي الودائع، فهي قد فقدت تلقائيًا أكثر من نصف قيمتها، بفعل تجاوز الدولار عتبة الثلاثة آلاف ليرة. وبالتالي، إنّ من وثق بوُعود تثبيت العملة الوطنيّة، يدفع حاليًا ثمنًا كبيرًا، نتيجة خسارة قيمة ودائعه، من دون أن يكون هناك بعد السقف الواضح لحجم هذه الخسارة، حيث أنّها تزيد تلقائيًا كلّما إرتفع الدولار أكثر فأكثر.

ثالثًا: إنّ ​الدين العام​ المُحرّر بالعملة الوطنيّة والذي تبلغ قيمته نحو 80000 مليار ليرة، والذي يعود لكل من ​مصرف لبنان​ (بنسبة 53%)، والمصارف (بنسبة 33%)، والمؤسّسات العامة (بنسبة 14%)، خسر من قيمته الفعليّة بفعل تدهور سعر صرف الليرة مُقابل الدولار، ما سيُسهّل عمليّة تسديده في حال وُجود النيّة لذلك. في المُقابل، إنّ الدين العام المُحرّر بالعملات الأجنبيّة والذي تبلغ قيمته نحو 30 مليار دولار أميركي، والذي يعود لكل من ​القطاع المصرفي​ (51%)، ومصرف لبنان (9%)، والصناديق الإستثماريّة (40%)، صار من الصعب التسديد أكثر فأكثر، مع التذكير أنّ ​الحكومة​ كانت إتخذت قرارًا بوقف تسديد هذا الدين وفوائده، من دون أن تتضح بعد عواقب هذا القرار.

رابعًا: بالنسبة إلى ما يُحكى اليوم عن إمكان عودة تدخّل مصرف لبنان للجم إرتفاع الدولار، فإنّ القُدرة التنفيذيّة لهذا الأمر لم تعد مَوجودة. تذكير أنّ سعر صرف الدولار الأميركي كان مطلع الثمانينات بحدود الخمس ليرات لبنانيّة فقط، ثم راح يرتفع إلى أن وصل إلى حدود الثلاثة آلاف ليرة في العام 1992، قبل أن يعود وينخفض مُجدّدًا ثم يُجمّد عند عتبة 1500 ليرة لبنانيّة لكل دولار، عبر سياسة تدخّل مالي في السوق من قبل مصرف لبنان كلّما دعت الحاجة لذلك. لكنّ هذه السياسة إستهلكت الكثير من إحتياطي مصرف لبنان بالعملة الخضراء، بسبب الخضّات الأمنيّة والسياسيّة المُتتالية التي ضربت لبنان خلال العقدين الماضيين، بحيث أنّ تجميد سعر الصرف تسبّب بتبخّر الكثير من الأموال، وهو بقي إصطناعيًا وغير مَوثوق. وبالتالي، اليوم، ومع غياب الثقة ب​الوضع المالي​ العام، وشحّ الدولارات داخل لبنان، عادت العملة الأميركيّة إلى الإرتفاع مُجدّدًا، من دون أن تكون لمصرف لبنان القُدرة على لجمه، علمًا أنّه لا يرغب أصلاً بالتضحيّة بما تبقّى له من إحتياطي مَحدود وضئيل من العملات الأجنبيّة.

خامسًا: حجم النقص الداخلي للدولار بلغ مرحلة خطيرة، حيث أنّ مصادر دُخول الدولارات من الخارج إلى لبنان مَعدومة حاليًا، حيث لا دعم مالي من قبل أي من الدول العربيّة أو الأجنبيّة في المرحلة الراهنة، ولا سواح عرب أو أجانب ولا من يحزنون، وتحويلات المُغتربين اللبنانيّين تقلّصت إلى الحدود الدنيا بسبب تأثّر أعمالهم في الخارج، وبفعل إنهيار عامل الثقة أيضًا. والشحّ في الدولار واضح إلى درجة أنّ مصرف لبنان عاد إلى تطبيق قرار سبَق أن تراجع عنه، يقضي بدفع قيمة التحويلات الخارجيّة بالدولار إلى غير المصارف، بالليرة اللبنانيّة، على أن يحصل هو على العملة الخضراء، حتى لو كانت عبارة عن مئتي أو ثلاثمئة دولار يُرسلها مُعيل إلى أهله في لبنان!.

في الختام، المَطلوب اليوم وبسرعة فائقة أن تحسم الحكومة أمرها بالنسبة إلى الخطّة الإقتصاديّة والماليّة، وأن تحمل خريطة طريق واضحة للخروج من النفق، وليس مُجرّد تعابير مطّاطيّة واعدة، أي أن يتمّ الإعلان عن إجراءات تنفيذيّة لضبط الهدر ولمُكافحة الفساد وللبدء بإستعادة الأموال المَنهوبة، إلخ. والمَطلوب اليوم وبسرعة فائقة أيضًا أن تحسم الحكومة أمرها بالنسبة إلى المُساعدة المادّية الخارجيّة، وأن تعمل على تأمين دعم مالي مُباشر أكان من ​صندوق النقد​ الدَولي أم سواه، لإعادة إطلاق عجلة الدَورة الإقتصادية، ولتأمين وظائف عمل لمئات آلاف اللبنانيّين الذين خسروا وظائفهم. والمَطلوب اليوم وبسرعة فائقة كذلك الأمر إستعادة عامل الثقةبين اللبناني–أكان عاملاً أو مُوظفًا أو تاجرًا أم حتى مُجرّد مُودع، من جهة، والدولة والحُكومة والمصارف من جهة أخرى، لأنّه من دون إستعادة هذه الثقة، الخط الإنحداري للإنهيار سيبقى قائمًا...