رصدت وكالة أنباء "شينخوا" في مقال خاص الأثر العميق لأزمة السيولة المالية في قطاع غزة، والتي فاقمت معاناة السكان في ظل حرب متواصلة وانهيار شبه كامل للقطاع المصرفي.
وبحسب المقال، فلسطينيون كثر، مثل عبد الله عبد ربه، يمضون ساعات طويلة يوميًا في محاولات يائسة لسحب رواتبهم أو تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم. عبد ربه، وهو أب لأربعة أطفال، قال لـ"شينخوا". إنه اضطر للتنقل لساعات بين المحال التجارية دون جدوى، قبل أن يعود إلى خيمته غرب غزة خالي الوفاض.
"عمولة سحب الراتب أصبحت 55٪، التجار يأخذون أكثر من نصف المبلغ مقابل إعطائنا السيولة. هذا أمر لا يحدث في أي مكان آخر"، قال عبد ربه، مشيرًا إلى أنه لم يتمكن من شراء الطحين لأطفاله الجائعين.
حالة عامة من الانهيار
منذ السابع من تشرين الأول 2023، تفرض إسرائيل قيودًا مشددة على إدخال النقد إلى قطاع غزة، بما في ذلك الشيقل الإسرائيلي. ونتيجة لذلك، أُغلقت البنوك أو جرى تعطيلها، ما دفع المواطنين للاعتماد على ما بات يُعرف محليًا بـ"سوق التكييش" – حيث يقوم وسطاء غير رسميين بتحويل الرواتب الرقمية إلى سيولة نقدية مقابل عمولات باهظة.
في هذا السياق، قال صالح فيصل، وهو أب لخمسة أطفال، لـ"شينخوا" : "الورق النقدي الموجود في غزة مهترئ والباعة يرفضونه، والأسعار ارتفعت بشكل غير مسبوق. لم أتمكن من شراء شيء رغم محاولتي منذ الصباح".
"التكييش" وغياب الرقابة
وفقًا لمصادر محلية تحدثت لـ"شينخوا" فإن نحو 70٪ من التحويلات المالية الرقمية تمر اليوم عبر وسطاء غير رسميين، بعضهم يعمل بعلاقات غير مباشرة مع جهات وفصائل محلية، ما يمنحهم حرية العمل رغم القرارات الرسمية بحظر ذلك.
أحمد الداعور، موظف حكومي في وزارة التربية والتعليم، قال :"عندما أستلم راتبي عبر التطبيق، أضطر للذهاب إلى تاجر عمولة. إذا كان راتبي 200 دولار، لا أحصل فعليًا إلا على 90 أو 100 دولار نقدًا، والباقي يأخذه التاجر".
ويضيف: "نحن ندفع ثمن الحصار مرتين، مرة بمنع النقد، ومرة أخرى بالاستغلال الداخلي من تجار العمولة".
أرقام صادمة وتضخم غير مسبوق
تُظهر بيانات سلطة النقد الفلسطينية، التي حصلت عليها "شينخوا"، أن نحو 1.2 مليار شيقل من السيولة المطلوبة مفقودة من النظام المصرفي في غزة حتى منتصف 2024.
أما المحلل الاقتصادي وعضو الأمانة العامة لاتحاد الاقتصاديين الفلسطينيين سمير أبو مدلله، فأوضح أن نحو 98٪ من البنية المصرفية في القطاع تعطلت أو دُمرت بالكامل منذ بداية الحرب، وأن خسائر البنوك تجاوزت 14 مليون دولار، في حين فقدت محفظة القروض أكثر من مليار دولار من قيمتها.
وأشار أبو مدلله إلى أن التضخم في غزة تخطى 500٪، مؤكدًا أن هذا الوضع أدى إلى انتشار السوق السوداء وتعزيز نفوذها على حساب النظام المصرفي الرسمي.
آثار اجتماعية ونفسية متفاقمة
أوضحت منى شحادة، وهي موظفة اجتماعية في منظمة إغاثية محلية، أن آثار الأزمة امتدت إلى البنية الاجتماعية والنفسية في القطاع. وقالت: "نشهد يوميًا حالات طلاق جديدة، ومشاكل نفسية حادة، ومحاولات انتحار، وكل ذلك نتيجة الفقر والعجز والضغوط اليومية".
كما سجلت المنظمات الحقوقية المحلية، بحسب ما نقلته ((شينخوا))، زيادة ملحوظة في الجرائم الاقتصادية، كالاحتيال والسرقة، في ظل انعدام الأمن الاقتصادي وانهيار منظومة الدعم الاجتماعي.
اتهامات قانونية لإسرائيل بخرق اتفاق باريس
من جانبه، قال المحامي المتخصص في القانون الدولي أحمد حمد إن منع إدخال النقد إلى غزة يمثل خرقًا صريحًا لاتفاق باريس الاقتصادي الموقع عام 1994، والذي ينص على التزام إسرائيل بتسهيل حركة الأموال وتحويل فائض الشيقل إلى السلطة الفلسطينية.
وأوضح حمد أن هذا المنع "قد يُصنف كجريمة اقتصادية جماعية إذا نُظر إليه في سياق سياسة العقوبات الجماعية المفروضة على المدنيين".
ودعا إلى إجراءات عاجلة تشمل مصادرة أرباح تجار العمولة غير المرخصين، وتجميد أرصدتهم، وتفعيل بوابة شكاوى رسمية، إلى جانب دعم المحافظ الرقمية وربطها بأنظمة دفع دولية للحد من الاعتماد على السوق السوداء.
حرب مستمرة ومأساة إنسانية
وتأتي هذه الأزمة المالية في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي بدأت عقب هجوم مفاجئ شنته حركة حماس على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023.
ووفق ما أفادت به وزارة الصحة في غزة، فقد أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 60 ألف شخص وإصابة نحو 145 ألفًا، إلى جانب تدمير واسع في البنية التحتية والمرافق الحيوية.