لا يُمكن لأيّ خُطّة إقتصاديّة–ماليّة أن تنال رضى الجميع، ولا يُمكن أن لا تكون خالية من الثغرات، ولا يُمكن ألاّ يكون هناك آراء مُتضاربة بشأن مدى صوابيّة كل بند فيها، والعبرة تبقى أصلاً في النتائج المُحقّقة عند التنفيذ. لكنّ الأكيد أنّ التغاضي عن ثغرات أساسيّة أرهقت الخزينة اللبنانيّة، ولعبت دورًا رئيسًا في وُصول اللبنانيّين إلى مرحلة الإنهيار الحياتي والمَعيشي، غير مَسموح! وكلمة حقّ تُقال أنّ مُعالجة الثغرات التي سلّط الضوء عليها–وبشكل مُنفصل، كلّ من رئيس "التيار الوطني الحُرّ" النائب ​جبران باسيل​، ورئيس حزب "القوات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​، خلال لقاء بعبدا الأخير، يُمكن أن يلعب دورًا رئيسًا في تخفيف وطأة الأزمة الحالية، من دون إهمال باقي البُنود طبعًا، على غرار مُكافحة ​الفساد​، ووقف الهدر، وإسترجاع الأموال المَنهوبة، وإعادة هيكلة الدولة و​المصارف​، وتأمين المُساعدات الدَولية، إلخ.

في ملفّ ​النازحين​ السوريّين، ومنذ بداية الحرب السُوريّة في العام 2011، كان "التيّار الوطني الحُرّ" طليعيًا في التحذير من خُطورة هذا الملف على لبنان إقتصاديًا وماليًا وديمغرافيًا، وقد أضاء الرئيس الحالي للتيّار على هذا الملف بشكل مُتكرّر، مُتجاهلاً إتهامات العُنصريّة التي يرشقه بها المُعترضون. وقد فنّد النائب باسيل نقاط القُوّة والضعف الواردة في الخُطّة الإصلاحيّة(1) خلال لقاء بعبدا الأخير. وحتى اليوم، لم تتخذ أيّ جهة سياسيّة داخليّة، أكانت مُصنّفة حليفة للتيّار أو في موقع الخُصومة له، أي خُطوة جدّية لحلّ هذا الملفّ، في حين تنصّل المُجتمع الدَولي من مسؤوليّاته إزاء إعادة النازحين، وفشلت جُهود روسيا وغيرها في إعادة أيّ أعداد مُهمّة منهم.

لكنّ الأكيد أنّ أيّ خطة إنقاذيّة للواقعين الإقتصادي والمالي في لبنان، يجب أن تُعطي الأولويّة لهذا الملف الذي أرهق لبنان، وأوقعه بخسائر كبيرة. والأخطر أنّ وجود النازحين السُوريّين حرم اللبنانيّين من مئات آلاف الوظائف، وساهم في رفع نسب ​البطالة​ بشكل كبير. واليوم، ومع إنهيار قيمة العملة الوطنيّة، وحاجة المزيد من اللبنانيّين للعمل في أي مهنة تُكسبهم ولوّ القليل، لم يعد من مُبرّر لأن يكون النازحون يستحوذون على وظائف لن يتردّد اللبنانيّون العاطلون عن العمل حاليًا عن أدائها، وذلك في ميادين عمل مهنيّة وزراعيّة مُختلفة. والمسألة لا يجب أن تقتصر على النازح السُوري، وكأنّ في الأمر عُنصريّة أو ما شابه، بل يجب أن تطال كلّ العُمال الأجانب على أرض لبنان، أكانوا يحملون الجنسيّة المصريّة أو الهنديّة أو الإثيوبيّة أو غيرها. فهل يُمكن القُبول بعد اليوم أن تخرج مليارات الدولارات من لبنان لصالح العُمّال الأجانب، على حساب كلّ من الخزينة اللبنانيّة، وقيمة العملة الوطنيّة، واليد العاملة اللبنانيّة؟! فهل من المُسموح مثلاً أن يعمل سائق الأجرة، أو النجّار، أو الكهربائي السُوري، على حساب السائق أو النجّار أو الكهربائي اللبناني؟! وهل من المُسموح أن تعمل البائعة السُورية في المتاجر اللبنانيّة الصغيرة والكبيرة على السواء، على حساب البائعات اللبنانيّات؟! وهل من المُسموح أن يعمل الموظّف المصري في محطّة الوُقود على حساب الموظّف اللبناني؟! وهل من المسموح أن يعمل الموظّف الهندي في المصنع على حساب الموظّف اللبناني أيضًا؟! وهل من المَسموح أن تقوم العاملة الإثيوبيّة بتنظيف المنازل بدلاً من عاملات لبنانيّات؟! والأمثلة لا تنتهي، علمًا أنّ الحجّة القائلة إنّ اللبناني لا يقوم بهذه الأعمال، غير صحيحة، وصفحات التوظيف مليئة بطلبات عمل في هذه المهن والوظائف وغيرها، من قبل لبنانيّين!.

في ملفّات المَعابر غير الشرعيّة و​الجمارك​ والكهرباء والتي أضاء عليها رئيس حزب "القوات" خلال كلمته مُباشرة بعد لقاء بعبدا الحواري(2)، إنّ "القوات" ترفع الصوت منذ فترة طويلة على هذا المُستوى، حيث يتّهمها البعض بأنّها تستهدف "​حزب الله​" من خلال التركيز على الجمارك والمعابر غير الشرعيّة، و"التيّار الوطني الحُرّ" من خلال التركيز على ​قطاع الكهرباء​. وبغضّ النظر عن الخلفيّات، هل من المَعقول ترك ثغرة مثل ثغرة مؤسّسة كهرباء لبنان قائمة خلال مُعالجة ​العجز المالي​ الهائل في لبنان، بعد أن بيّنت التحقيقات القائمة حاليًا حجم الهدر والفساد في هذا الملف، من دون أن تصل بعد إلى هويّة المتورّطين الحقيقيّين من الجهات السياسيّة؟ وبالتالي، صار من الضروري الذهاب بعيدًا في التحقيقات، وتوقيف المُتورطين في فساد الكهرباء و​الفيول​، إلخ، والمُطالبة بإستعادة الأموال المَسروقة، مهما كانت هويّة المُتورّطين والجهات التي تقف وراءهم، خاصة وأنّ القوى السياسيّة تتبادل الإتهامات في هذا الملف، وتغمز من قناة تورّط هذا أو ذاك، ما يستوجب من ​القضاء اللبناني​ تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود للرأي العام اللبناني، والتحرّك بشكل موضوعي ومن دون أيّ خلفيّة سياسيّة، لسد هذه الثغرة الضخمة في عجز الميزانيّة. وهل من المَعقول الإستمرار في سياسة التغاضي عن ثغرات المعابر غير الشرعيّة والتهرّب الجمركي، بدلاً من التفاهم مع "حزب الله" على مُعالجة هذا الملف جديًا، من دون التأثير على عمليّاته اللوجستيّة، طالما أنّ السُلطة الحالية عاجزة عن بسط سيادتها بالقُوّة، وطالما أنّ هذه السُلطة تُقرّ أصلاً بأحقّية المُقاومة في التحرّك الميداني وفي الحُصول على التسليح والمُساعدات اللوجستيّة؟!.

في الختام، لا يهمّ من يُضيء على كلّ من الثغرات والهدر والفساد، ولا يهمّ لأي غاية وبأيّ خلفيّة، حيث يجب أن تعمل السُلطة في لبنان على مُعالجات هذه الملفّات بالحزم اللازم حينًا، وبالحنكة السياسيّة والتفاهم الداخلي حينًا آخر، لأنّه من دون ذلك، لن تنجح أيّ خطّة إقتصاديّة في وقف النزيف المالي الذي تُعاني منه الدولة، والذي إنعكس إنهيارًا شاملاً طال حياة أغلبيّة اللبنانيّين.

(1) جاء في مُلاحظات رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل: "ذكر النازحين السُوريّين وكأنّه من باب ربع العتب فيما هو أساسي بتكبيدنا الخسائر الماليّة المُقدّرة بنحو 43 مليار دولار، ولا يُمكن لإقتصادنا أن يقوم من دون خطة واضحة لعودتهم الكريمة والآمنة والمُنظّمة إلى بلدهم".

(2) جاء في كلمة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع: "... قبل أي ورقة إصلاحيّة يتمّ وضعها، علينا أن نصلح الوعاء المَثقوب(...)، ومثلاً الحُكومة لم تتّخذ أيّ خُطوة بشأن المعابر غير الشرعيّة أو الجمارك والكهرباء ومزاريب الفساد والهدر الأخرى"...