يسخر التاريخ من المنقّبين في مسار حركته عن دلائل على قبول فئات حاكمة بالتنازل عن مكتسباتها ومغانمها بنحو سلمي وودّي الطابع.

فهل يكون ​لبنان​ «المعجزة» هو الاستثناء الوحيد في العالم، الذي تنجح فيه «انتفاضة» محدودة جداً، بإقناع طبقة سياسية عمرها في الحكم يصل الى سبعة عقود بالتخلّي عن السلطة؟ واذا حدث هذا الامر فإنّ دولة الأرز الشامخ قد تهيمن على صفحات التاريخ ودواوين الشعر، وربما المعلّقات ايضاً.

هذه ليست دعوة الى التغيير ب​العنف​ لكنها بمثابة كشف «سيناريو» تُعدّه الطبقة السياسية اللبنانية لإعادة بناء نظامها التقليدي الطائفي داخلياً، والتابع للخارج سياسياً، على مستوى المكرّمات والديون، مع إصلاحات شكلية هي آنية، لزوم التعاون مع الصناديق الدولية والدول الاوروبية.

هناك نقطتان لا بدّ من عرضهما قبل التوغّل في الموضوع، الاولى، انّ التاريخ نفسه يقهقه لفرط دهشته من لبنانيين يخترعون نمطاً ودوداً في التغيير السياسي، يستند الى «اقتناع اللصوص السياسيين» بأنّهم سارقون فيتخلّون عن الدولة وسلطتها، معيدين المال المنهوب والأملاك العامة المسروقة الى المال العام.

فيما تذهب النقطة الثانية، الى انّ ​الانتفاضة​ الشعبية التي يُطلِق عليها قادتها لقب «ثورة» هي التي تُرعب هذه الطبقة السياسية وتفرض عليها الاستسلام بلا قيد او شرط.

الّا انّ الحقيقة هي، انّ النظام الطائفي مبتهج الى درجة الثمالة القصوى من انتفاضة مجهرية، يحتاج المتابع الى «ميكروسكوب» له قوة التكبير الى 600 درجة حتى يراها بوضوح، اي تماماً كوضعية جائحة «​الكورونا​». فكيف تخاف منها طبقة سياسية، يواليها عشرات الآلاف من الموظفين الرسميين والامنيين والمفتين والمطارنة، وشيوخ العقل والفئات الشعبية المنجذبة الى سلطان الغيب، والطبقات العليا المفتونة بسحر المال والرساميل، هذا من دون احتساب «الخارج» المرتبط به من الاميركيين والسعوديين والإيرانيين وصولاً الى الأتراك الذين ابتدأوا يتسلّلون من خلال عمائم «الاخوان المسلمين» الى انحاء مختلفة من لبنان الفريد.

قد يسأل بعض المتابعين عن مدى صحة هذا الكلام، بدليل انّ الطبقة السياسية هي التي تبحث عن حلول لأزمة البلاد في الداخل والخارج.

فلماذا تفعل ذلك اذا لم تكن مهدّدة فعلاً؟

الإجابة هنا واضحة وتصرخ بأنّ الطبقة السياسية الطوائفية أفلست الدولة وأفرغت مليارات ال​دولار​ات ونهبت تفاعلات اقتصادية منذ 1993 ترقى الى 350 مليار دولار، فدخلت الدولة في انهيار فعلي، كفيل بضربها ومعها النظام السياسي الطوائفي واستقرار المجتمع وتصديع الكيان السياسي نفسه.

للإشارة، فإنّ النظام السياسي الطائفي يتكوّن من كل الاحزاب السياسية التي شاركت في بناه ​الدستور​ية المختلفة منذ ثلاثة عقود على الاقل. فهناك من نهب اموالاً ونفوذاً وتعيينات لمحازبيه، تدفع الدولة لهم اجوراً عن اعمال يؤدونها في مكاتبهم الحزبية، وسطا ايضاً على الصفقات والعمولات، وهناك من تستّر على لا اعمال هذه الفئة، ويستعملها عند حاجته الى نفوذ او اصوات انتخابية، هذا من دون استثناء اطراف اخرى وازنة، ارتضت بالدور الاقليمي انطلاقاً من لبنان، مقابل قبولها بهدنة مع النظام الفاسد، لكنها أمّنت له حماية وازنة دفعته الى مزيد من ​الفساد​ الآمن.

فكيف يمكن لانتفاضة صغيرة، لا تقبل قواها المتعددة حتى بتشكيل قيادة واحدة وبرنامج عمل موحد، ان تهزم كل هذه الفئات او تقنعها بوقف الفساد. فهذا النمط لا ينتمي الى فئة الإرشاد ​الدين​ي، الذي يعمل على وعظ النكارى والفاسدين والمنحرفين رافعاً من دون درجات إيمان المتّقين، بل يحتاج الى إزالة كاملة بالقوة.

فلننظر كيف تعامل الفرنسيون مع نظامهم الملكي الفاسد في القرن الثامن عشر. يكفي انّهم اعدموا الفئة الملكية برجالها ونسائها، واحرقوا سجن «الباستيل»، اكبر رمز للجبروت الملكي، مؤسسين اول نظام جمهوري فرنسي يقوم على المساواة بين الفرنسيين في السياسة و​الاقتصاد​ والاجتماع، ومعيدين الدين الى دوره الايماني فقط. كذلك سلسلة الثورات الانكليزية التي انتجت نظاماً ملكياً، لا يحكم الملك فيه، وترعاه واحدة من اعرق الديموقراطيات في التاريخ، بنحو اصبحت فيه الملكية ديكوراً رمزياً للامبراطورية الانكليزية.

ولا ننسى حروب ​الاستقلال​ الاميركية في القرن التاسع عشر، التي بنت دولة فيها اكثر من خمسين قومية متناقضة واعراق من البيض والسود والصفر والسمر، على اساس المساواة مع ديموقراطية داخلية لافتة، هي التي تنتج السلطة، حتى ولو كان هناك ادوار في صناعات القناعات للإعلام الاميركي المتمكن.

للمزيد من العدالة التاريخية، لا يجوز إغفال سلسلة الثورات، البولشفية في ​روسيا​، والماوية في ​الصين​، وحروب الاستقلال في ​فيتنام​، التي ادّت بدورها الى ولادة انظمة ترضى عنها مجتمعاتها.

فأين لبنان من كل هذا التطور العالمي؟ علماً انّ نظامه السياسي جاوز في فساده اوضاع البلدان التي اصابتها ثورات ضخمة.

المحنة اللبنانية بدأت بولادة نظام انتصب على اساس المنع الدستوري للإندماج بين اللبنانيين، فوزّع هذا الدستور حصصاً لطوائف، لا يمكن تجاوزها في البنى الدستورية النيابية والحكومية والرئاسية، وألحق بها تحاصصاً ادارياً مذهبياً لا مثيل له في العالم، ما اعاق إمكانية ولادة حركة لبنانية عامة، بوسعها الدعوة الى انتفاضة ذات طابع وطني، وبذلك استطاع النظام الطائفي خنق اي حركة مطلبية فعلية. فها هي الاحزاب اليسارية الوطنية الطابع بقيت هزيلة وقليلة الأثر طوال ثلاثة عقود من نشاطها السياسي، انهتها بالتوازي وإطلاق بيانات لا يقرأها احد، والسبب هو النظام الطائفي الذي نجح بالسيطرة على ​الادارات العامة​ ومؤسسات الدين، وتهميش الاحزاب الوطنية واسرها في صفحات التاريخ.

يتبيّن انّ هناك نظاماً طائفياً هوى الى اسفل حضيض، لكنه يتعامل مع مجتمع لم تنتصب فيه قوى وطنية اصلاحية فعلياً. فهناك احزاب وطنية ضعيفة جداً، تعجز عن مجابهة النظام الطائفي، ومدعومة من الداخل وجائحة «الكورونا»! فراهن البعض على إسقاط هذا النظام الطائفي بعوامل عدة: الانهيار الاقتصادي الذي يحول دون تمكّن هذا النظام الطائفي من تلبية الحاجات الاساسية للمجتمع، من استيراد للمواد الاساسية وتغطية الرواتب و​الكهرباء​ والماء والامن، ومعظم الحاجات الاخرى. لكن الرهان على التغيير ذهب ايضاً ناحية الاستفادة من النزاعات المندلعة بحدّة بين قوى الخارج التي يرتبط بها النظام الطائفي، وخصوصاً بين الاميركيين والخليجيين من جهة و​ايران​ و​سوريا​ من جهة ثانية، وهو نزاع يشمل ايضاً ​العراق​ وسوريا.

بمعنى انّ سقوط النظام الطائفي اللبناني اصبح، كما اعتقد بعض المحللين، في يد المنتصر في نزاعات الاقليم كما يحدث دائماً. كانت السياسة اللبنانية فرنسية في مرحلة انتصار ​فرنسا​ واميركية منذ اواخر خمسينات القرن الماضي. وطرأت عليها عناصر خارجية مصرية وسعودية وسورية وايرانية مع الثابت الاميركي الاكبر والفرنسي، الذي يطلّ حيناً مشتاقاً حنينه التاريخي، وسرعان ما يختفي مخلياً الساحة لأصحاب القوة الاكثر رجحاناً.

وسط هذه التطورات اعاد ​النظام اللبناني​ ترميم وسائله المباشرة، مبتعداً شكلياً عن ادارة حكومة جديدة أولى رئاستها الى سياسي اكاديمي مع وزراء يشبهونه، فتكون هذه الحكومة وسيلته للابتعاد عن غضب الشارع من مفاسده المتراكمة، وآلية لإعادة الخارج الى لبنان عبر ​مجلس وزراء​ مستقل وغير فاسد كما يقدّمونه.

بذلك، تعود مؤتمرات «سيدر» وبركات ​صندوق النقد الدولي​ والمساعدات الغربية الى تدفقها، مع احتمال تجديد دور خليجي معتدل يتسلّل من ارتدادات جائحة «كورونا».

يتبيّن بالاستنتاج انّ الطبقة السياسية اللبنانية تمكنت من ضبط الخلافات بين احزابها ونصبت هدنة لإنقاذ نظامها الطائفي بارتباطاته الخارجية وحركته الداخلية. وبما انّ اي اتفاق داخلي لا يرتكز على هدنة داخلية، فلا يجوز فهم اللقاء بين مساعد الامين العام لـ»حزب الله» ​حسين خليل​ ورئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، الّا انسجاماً مع هدنة قوى الخارج في الساحة اللبنانية.

وزيارة الوزير السابق ​وليد جنبلاط​ للرئيس ​ميشال عون​ في ​القصر الجمهوري​ هي بدورها بوحي جنبلاطي، استشعر كعادته حركة الخارج. كذلك فإنّ حضور رئيس حزب «القوات اللبنانية» ​سمير جعجع​ لقاء قوى النظام السياسي أخيراً في القصر الجمهوري، مؤشر ينتمي الى الوان الاستلهام والوحي الخارجي.

لقد رأت المظلّة الخارجية للبنان، انّ انفجار الاوضاع فيه حالياً لن يؤدي الى تغيير في نظامه، بل قد تجنح الى فتح فوضى لا طاقة للاقليم على تحمّلها، او الاستثمار بها حالياً.

لذلك، باتت الحكومة الحالية هي المعبّر عن الهدنة بين الخارج المهيمن على لبنان بموافقة كل قوى النظام الطائفي، باستثناء ​سامي الجميل​، الذي لديه اسبابه ​المسيحية​ جداً. اما غياب الحريري عن اجتماع ​بعبدا​، فهو اعتراض على الهدنة التي تريد الإبقاء على الحكومة الحالية حتى مرحلة وقف الانهيار الاقتصادي وورود الإلهام الخارجي، الذي ينصبّ حالياً على عدم فتح ملف حكومة جديدة، قد تنتج انسداداً في عمليات التكليف والتأليف، تدفع البلاد الى مزيد من الانهيار، وهذا ما يجب تجنّبه في هذه الظروف.

لذلك، فإنّ النظام الطائفي يعمل على تجديد نفسه، مستفيداً من هدنة خارجية وضعف اجتماعي داخلي، سببه سيطرة الكهنوت الديني بتنوع اتجاهاته عليه، وضعف انتفاضة اصبحت تتذرع بالكورونا لتبرير سباتها في كهف عميق ومظلم.