في الشكل، لم يحمل ال​مؤتمر​ الصحافي الأخير لرئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ جديداً "نوعياً" يُذكَر، باعتبار أنّ "قصف جبهة" رئيس "​التيار الوطني الحر​" النائب ​جبران باسيل​ بات "العنوان الأوحد" لكلامه، كلما ارتأى "كسر" صيامه عن الكلام، وهو أمرٌ بات يتكرّر بين الفينة والأخرى.

ومع أنّ باسيل تعمّد عدم الردّ بالمباشر على مضمون كلام فرنجية، مكتفياً ربما بمضمون الردّ الذي صدر عن مكتب الإعلام في ​رئاسة الجمهورية​، فإنّ المفارقة غير "البريئة" التي توقّف عندها كثيرون تمثّلت في المواقف من المؤتمر، الذي "هلّل" له خصوم فرنجية، في حين "تحفّظ" عليه حلفاؤه، بشكلٍ أو بآخر، إن جاز التعبير.

وإذا كانت الأنظار توجّهت نحو موقف "​حزب الله​" من الأمر، وهو الذي بدا "متفرّجاً" في أفضل الأحوال، فإنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ "الحزب" سحب يده من الأمر، "سحب يدٍ" لم يتردّد البعض في طرفي الاشتباك القديم-الجديد، في التعبير عن "استيائه" منه، بشكلٍ أو بآخر...

هل "انجرّ" فرنجية؟

منذ الإعلان عن نيّة رئيس تيار "المردة" عقد مؤتمرٍ صحافيّ، توقّع كثيرون "تصعيداً" من جانب "بيك ​بنشعي​" باتجاه باسيل، ليس فقط لانعدام "الكيمياء" بينهما، ولا لكون جلّ مؤتمرات فرنجية الأخيرة موجّهة ضدّه عملياً، ولكن ربطاً أيضاً بالتطورات الأخيرة على صعيد ملف "​الفيول​ المغشوش"، والذي أضيف إلى سلسلة الملفات "الخلافيّة" بين الطرفين، اللذين لديهما أصلاً ما يكفي من عوامل الاختلاف.

ومع أنّ البعض توقّع أن يصل تصعيد فرنجية إلى حدّ إعلان تعليق مشاركته في ​الحكومة​، أو التهويل بذلك مجدّداً، إلا أنّ الكثيرين، من حلفاء الرجل قبل خصومه، استغربوا ما اعتبروه "انجراراً" من جانب فرنجية إلى اللهجة "الشعبويّة" في الخطاب السياسيّ، وهي "شعبويّة" رآها البعض غير موفّقة في التعاطي مع باسيل، لتغليبها "النكايات الشخصيّة" على "المصلحة العامة" في مكانٍ ما، إن جاز التعبير.

ولعلّ المثال الساطع على هذه "الشعبويّة" يتمثّل في تطوّع فرنجية لـ"تغطية" مطلوبين للقضاء، ليس وفق قاعدة أنّ "المتّهم بريء حتى تثبت إدانته"، ولكن بذريعة "الصداقة" التي تربطه بهذا المتّهَم، على رغم كونها حُجّة غير كافية لتبرئته. وإذا كان من حقّ فرنجية أن "يرتاب" في مكانٍ ما، بالنظر إلى ما يعتبر "ضغوطاً سياسيّة" يمكن أن تُمارَس على ​القضاء​، فإنّ الخطأ الذي وقع فيه يكمن في "تكريس" منطق "الخطوط الحمراء"، وهو المنطق الذي لا يزال يمنع الشروع في أيّ محاسبةٍ حقيقيّة، باعتبار أنّ كلّ متهَمٍ، في أيّ ملفٍّ من الملفّات، لديه "رأس" يحميه ويحصّنه مهما اشتدّت الصعوبات.

وإلى جانب هذا الخطأ البديهيّ، ولو اعتبره كثيرون "طبيعياً" باعتبار أنّ ما فعله فرنجية يمارسه بصورة يوميّة جميع "رموز" الطبقة السياسية، بمن فيهم "المنظّرون" ضدّ ​الفساد​، على كثرتهم، فإنّ "خطيئة" أخرى ارتكبها الرجل برأي البعض، تتمثّل بتحويل خلافه الشخصي مع باسيل إلى سببٍ لـ"السخرية"، وربما "الشماتة"، من إمكانية أن يكون ​لبنان​ ضمن الدول النفطيّة، وكأنّ في ذلك انتصاراً لطرفٍ هو هنا "التيار الوطني الحر" على آخر، ولو أنّ المقرّبين من فرنجية يحرصون على القول إنّ ما قصده الأخير لم يكن سوى رفض "إيهام" الرأي العام بأمرٍ غير حقيقي، وبناء "الرهانات" غير الواقعيّة على أساسه.

لا وساطات ولا من يحزنون!

وبمُعزَلٍ عمّا إذا كان فرنجيّة مُحِقّاً في "ريبته" من باسيل، والمحسوبين عليه في المؤسسات الرسميّة، وبغضّ النظر عن تحوّله في مكانٍ ما إلى "قائدٍ" في عيون خصوم باسيل، وهم الذين يشكّلون للمفارقة، خصوماً مفترضين له نفسه، في ​السياسة​ والاستراتيجيا بالحدّ الأدنى، فإنّ الاستنتاج المنطقي والبديهي من مؤتمره الصحافي قد يكون بطبيعة الحال، أنّ الخلاف بين الرجلين تخطّى كلّ الحدود الواقعيّة، وبات بلا "أفق".

وإذا كان باسيل لاذ بـ"الصمت" ولم يعلّق على مؤتمر فرنجية من قريب أو من بعيد، تكريساً لاستراتيجية "التجاهل" التي يعتمدها منذ فترة، ويوحي من خلالها بأنّه ليس مصدر المشكلة، وأنّ الآخرين هم الذين يعمدون لـ"استفزازه"، وليس العكس، فإنّ إعلامه، كما المقرّبين منه، عوّضوا الفرق، خصوصاً أنّ بعضهم لم يجد مبالغةً في توصيف كلام فرنجية بـ"الجنون"، والتصويب عليه بكلّ السبل المُتاحة، وهو ما تظهّر كذلك بتغريدات وتصريحات بعض القياديّين المحسوبين على "الوطنيّ الحرّ".

ولعلّ الغائب الأكبر عن كلّ المعمعة الحاصلة تمثّلت في غياب "الوساطات"، الأمر الذي تكرّس منذ فترة طويلة، ولم يتغيّر في ​الساعات​ الأخيرة، ولو في محاولةٍ لإرساء مجرّد "هدنة" بين الرجلين، تشمل "وقفاً ل​إطلاق النار​" بين الجانبين، ولو بالحدّ الأدنى. وإذا كانت الأنظار اتّجهت نحو "حزب الله" في هذا الإطار، باعتبار أنّه الوحيد القادر على أن "يمون" على كلّ من فرنجية وباسيل، فإنّ الأخير بدا في موقع "المتفرّج" أكثر من أيّ شيء آخر، ما دفع البعض إلى القول إنّ الحزب يقف "على الحياد"، أو ربما يشجّع "اللعب النظيف"، كما يحصل عندما يجد المرء نفسه أمام مباراة يتنافس فيها فريقاه المفضّلان.

لكنّ اكتفاء "حزب الله" بدور "المتفرّج" لا يعني أنّه راضٍ بالنتيجة التي تفضي إليها "الاشتباكات" الدائرة بين حليفيْه، بل يعني، على العكس من ذلك، "سحب يده" بالكامل، و"سحب اليد" هذا ليس مرتبطاً باقتناعه بحاجته إلى "معجزة" لتقريب وجهات النظر بين فرنجية وباسيل، بقدر ما هو تعبير عن "الاستياء" من الدرك الذي وصلت إليه الأمور، والذي يسبّب "أضراراً جسيمة" بحقّ كامل فريق الثامن من آذار، الذي لا يزال بعض أفرقائه منشغلاً بـ"الشماتة" بقوى المعارضة المفكّكة والمرتبكة وغير المنسجمة، متجاهلاً واقعه الداخليّ الذي تثبت الوقائع يوماً بعد يوم أنّه "أمَرّ".

رئاسة... "أنقاض"؟!

لم يفضح سليمان فرنجية "المستور"، حين أقحم "البازار الرئاسي" في سياق "أطروحته" ضدّ باسيل.

لم يفعل ذلك حين قال إنّ باسيل فتح المعركة الرئاسية مبكراً، ولا حين قال إنّ اسمه "مطروح" لرئاسة الجمهورية، بعكس باسيل الذي "ربّ ربّه ما بيعملو مختار"، على حدّ تعبيره.

لعلّ فرنجية كان بذلك يغمز من قناة "جوهر" الخلاف مع باسيل، و"التيار" الذي يمثّله، خلافٌ بدأ من ​الانتخابات​ الرئاسيّة الماضية، ويمتدّ إلى الانتخابات الرئاسيّة التالية وما يليها، لاعتقاده ربما أنّ المنافسة "محصورة" بينهما.

هكذا، لا تعود المشكلة بين فرنجية وباسيل محصورة بحصّة وزاريّة من هنا، أو اتهامات تقصير وفسادٍ هناك، وإنما بمقعد الرئاسة الذي يضع كلٌ منهما عينه عليه، مهما كابرا ونفيا وأنكرا.

من هنا، يعتقد فرنجية أنّه بتصويبه على باسيل، يكسب المزيد من "الداعمين" ممّن لن يتردّدوا في تفضيله إذا ما خُيّروا بينه وبين باسيل، لكنّ المشكلة في هذه القراءة، على واقعيّتها، أنّها تتجاهل أنّ الجمهورية بأكملها ستصبح بمثابة "أنقاض" إذا ما استمرّت هذه الذهنية، بما يعرّي رئاستها من أيّ مضمون.

هنا فقط تكمن المشكلة الحقيقية، وهنا التحدّي الأكبر، بعيداً عن "شعبويّة" تكرّس انعدام المحاسبة، و"ترفّعٍ" يعزّز منطق "الاستقواء"...