يُدرك ال​لبنان​يون أنّ البلد مقبل على تطاحن سياسي حول إستحقاقات عدة، يُصبح فيها ملف ​التعيينات​ مجرد تفصيل. لا تتحمّل الحكومة الحالية مسؤولية تأخير بت الملفات، لأن التأجيل سياسي وليس حكومياً. لكن بدأت بعض القوى السياسية تتعاطى مع الحكومة وكأنها باتت في حكم ​تصريف الأعمال​. قد يكون في هذا التعاطي تجنٍ مقصود أو غير مقصود. علماً أن ما حصل في الأيام الماضية يفرض قراءة المؤشرات بشكل حيادي.

بعد مقاربة الحكومة لملف ​سلعاتا​، طرح رئيس التيار "الوطني الحر" ​جبران باسيل​ فكرة تعديل الحكومة. لكنه فوجئ برفض طرحه، بينما ذهب آخرون إلى الحديث عن وجوب التغيير الحكومي الكامل. تداول عدد من السياسيين فكرة التغيير لا التعديل، لكن الجواب وصل بشكل سريع: رئيس الحكومة ​حسان دياب​ لا يقبل الإستقالة، و"​حزب الله​" لا يريد كسر الجرّة معه الآن، رغم الملاحظات التي تتراكم بشأن أدائه، خصوصاً إزاء الملف السوري.

لم يكن السبب المذكور وحيداً في تجميد طرح التغيير. بل عدم ترك البلاد في فراغ حكومي: من هو البديل؟ هل يقبل رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ بتأليف حكومة جديدة؟ منذ أسابيع كان "الشيخ سعد" يرفض العودة الى السراي في ظل اوضاع سياسية داخلية وإقليمية صعبة، وبعد تراكم تداعيات سلبية للأزمة الإقتصادية. قد تكون ممارسات شقيقه ​بهاء الحريري​ دفعته للقبول بإستلام ​السلطة​ مجدداً وسريعاً، لمواجهة المدّ البهائي في الساحة السنيّة. لكن هناك أسباب لا زالت تمنع الحريري من تأليف حكومة حالياً:

اولاً، لا يقبل "الشيخ سعد" بإمساك لعبة سلطوية تنفيذية خاسرة، قبل اتضاح مسار تعاطي ​صندوق النقد الدولي​ مع لبنان. يعتقد "المستقبليون" أنّ عودة رئيسهم "ستكون لاحقاً للإنقاذ بعد نفاذ مفعول الحكومة الحالية، وفشلها في ​تحقيق​ أي إنجاز مالي أو إقتصادي".

ثانياً، لا يمكن للحريري العودة الى ​السراي الحكومي​ قبل إتضاح مشهد تسوية سياسية داخلية تسهّل رئاسته لحكومة وطنية إنقاذية جامعة.

ثالثاً، يصرّ فريقا "​القوات​" و"​التقدمي الإشتراكي​" على التفرج الآن في مرحلة سياسية معقّدة خارجياً، وبالتالي لن يعود الحريري وحده من دون فريقي التوازن الحكومي مقابل "الوطني الحر" وحلفائه.

رابعاً، تُدرك كل القوى السياسية أنّ العقوبات على ​سوريا​ و"حزب الله" هي مؤلمة جداً، اقتصادياً ومعيشياً، على كل السوريين واللبنانيين، لتمرير الأميركيين والإسرائيليين ​صفقة القرن​ من دون مشاكسة "محور ​المقاومة​". هنا تكمن مصلحة الحريري وحلفائه برمي مسؤولية ​الأزمة​ المالية الإقتصادية على الحكومة الحالية والتدخل لاحقاً حينما تنضج الظروف.

كل ذلك يطيل من عمر الحكومة الحالية لأسابيع، أو أشهر إضافية. لا أحد يعلم مدى مساحتها الزمنية، رغم ان الأصوات تتعالى لتأليف حكومة وطنية جامعة كلما إزدادت تداعيات الأزمات، خصوصاً أنّ لعبة الشارع عادت تطل بخطورة طائفية ومذهبية تتطلّب تسويات سريعة.

لكن ما هي التسويات الممكنة؟ هل تكون ضمن ​السلة المتكاملة​؟ أم جزئية؟.

توحي كل المعطيات ان البرودة تطغى على موضوع ​رئاسة الحكومة​ بفعل عدم وجود رغبة حالية، لا عند الحريري ولا عند أبرز المرشحين التقليديين لتولي منصب ​رئاسة مجلس الوزراء​. تقابل تلك البرودة حرارة تزداد على خط الاستحقاق الرئاسي المقبل بعد سنتين. يريد باسيل الوصول الى ​قصر بعبدا​ بعد انتهاء ولاية ​الرئيس ميشال عون​، مما يعني أن مصلحته تكمن بوجود تسوية شاملة، تبدأ الآن بعودته الى الحكومة كما هو يرغب وزيراً للخارجية لإبقاء خطوطه المباشرة مفتوحة مع عواصم مؤثرة، على وقع طرح أسماء عدة متقدّمة للرئاسة الأولى: من الطقم العسكري قائد ​الجيش​ ​العماد جوزيف عون​، والنائب العميد ​شامل روكز​. هما وطنيان ناجحان ومرموقان في كل المناصب التي استلماها، ويحظيان بثقة دولية وإقليمية ومحلية.

من الطقم الإقتصادي: النائبان ​إبراهيم كنعان​ و​نعمة افرام​. كلاهما يطرح رؤية مالية واقتصادية لمعالجة الأزمة القائمة.

هل يحتاج لبنان الى عقلية عسكرية لضبط استقراره بالدرجة الأولى؟ أم هو بحاجة فقط لعقلية مالية لتأمين اندفاعة إقتصادية؟.

من السابق لأوانه تحديد الأولويات التي ستكون خاضعة للتسويات المقبلة. لكن الحديث بدأ جدّياً يدور حول مضامين أي تسوية في ظل استبعاد المطروحين للرئاسة من المتخاصمين: إخراج باسيل من اللعبة يتضمّن إخراج رئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ أيضاً الذي تراجعت حظوظه في الآونة الاخيرة. لا يقبل أحدهما بالآخر، فيُصبح باسيل مقابل فرنجية. تلك معادلة تخفّف من ثقل الحمل لدى حليفهما المشترك "حزب الله". بينما سيكون رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ سعيداً بإبعاد خصومه لمصلحة شخصيات أخرى لا تترأس احزاباً منافسة لحزبه في الساحة ​المسيحية​. هناك من سأل: هل يكون النائب السابق ​إميل رحمة​ الشخصية التوافقية لعدم كسر الآخرين، ولتمتعه بعلاقات متينة مع كل الأفرقاء، لكن جعجع وحده من يعارض وصوله حينها. ربما هذا هو المطلوب.