منذ مدّة تصدر دعوات تحثّ على توجيه الإقتصاد شرقًا، وبالتحديد إلى ​الصين​، وذلك من قبل شخصيّات مَحسوبة على قوى "8 آذار" السابقة، وخاصة من قبل "​حزب الله​". فهل هذه المُقاربة واقعيّة وقابلة للتنفيذ في ظلّ المُعطيات الراهنة، وما هي نتائجها وإرتداداتها في حال إعتمادها؟.

الأكيد أنّ الأزمة الحاليّة التي يعيشها ​لبنان​، على مُستوى كلّ من الدولة والناس جميعًا، هي أزمة غير مَسبوقة، وتستوجب إجراءات غير تقليديّة. والأكيد أنّنا لسنا مُلكًا خاصًا تابعًا لا للولايات المُتحدة الأميركيّة، ولا ل​فرنسا​ أو لباقي الدول الأوروبيّة، ولا لأي دولة غربيّة أخرى، ما يجعلنا أحرارًا في إختيار الجهات الدَوليّة التي نرغب بالتعاون معها إقتصاديًا وماليًا وتجاريًا. والأكيد أنّ القُدرات والصناعات والخدمات التي باتت دول الشرق، وبخاصة الصين، قادرة على توفيرها، صارت تؤمّن الإكتفاء الذاتي لأيّ دولة. لكن هل يعني ذلك، أنّه بمُجرّد أن نتخلّى عن الإستيراد من الولايات المُتحدة الأميركيّة والدول الأوروبيّة، وأن نبدأ بالتعامل بشكل كامل مع دول الشرق وفي طليعتها الصين، ستُحلّ مشاكلنا كلّها بسحر ساحر؟ بالتأكيد كلا، والأمور ليست بهذه البساطة على الإطلاق! والأسباب مُتعدّدة:

أوّلاً: إنّ إستيراد لبنان البضائع والسلع من أيّ دولة خارجيّة يستوجب الدفع بعملات مُعترف بها عالميًا، على غرار ​الدولار​ الأميركي أو ​اليورو​ الأوروبي مثلاً، أو حتى بعملة البلد المَعني. وبالتالي، في حال إستيراد البضائع من الصين، يجب الدفع إمّا بالدولار أو بعملة اليوان (تُعرف أيضًا شعبيًا في الصين بإسم الرنمينبيّ)، ما يعني مُواجهة نفس مُشكلة شحّ العملات الأجنبيّة التي تواجهنا عند الشراء من أي بلد غربيّ!.

ثانيًا: إنّ الحديث عن تصدير بضائع وسلع لبنانيّة إلى الصين، في مُقابل ما سنستورده منها، هو غير واقعي ولا قابل للتطبيق، فهل يُمكن مثلاً تصدير التُفّاح اللبناني في مُقابل إستيراد السيارات الصينيّة؟! وفي كلّ الأحوال، إنّ نوعيّة المواد والسلع والبضائع التي يُنتجها أو يصنعها أو يزرعها لبنان محدودة جدًا، كمًّا ونوعًا، وهي لا تكفي على الإطلاق لتغطية نفقات الإستيراد الباهظة التي يعتمدها لبنان منذ سنوات طويلة، ومن الصعب جدًا إقناع التجّار الخارجيّين بخيار المُبادلة من دون تقاضي أيّ أموال، وهو مبدأ كان مُعتمدًا منذ قرون!.

ثالثًا: إنّ لبنان يستورد منذ سنوات العديد من البضائع والسلع من الأسواق الصينيّة، ومن غيرها من أسواق دول الشرق، والتُجّار في لبنان يُعانون الأمرّين حاليًا، لتأمين الدولارات لتغطية هذه العمليّات، ما يعني أنّ هذا الخيار مفتوح أصلاً وليس بجديد أو مُبتكر، وما يعني أيضًا أنّه لا يُمثّل حلاً كون العملات الصعبة غير متوفّرة لتغطية نفقات الإستيراد بالمُطلق.

رابعًا: إنّ الحديث عن التوجّه شرقًا والتخلّي عن العالم الغربي بكامله، هو كلام سياسي بامتياز، ولا ينطلق من ركائز أو من معايير إقتصاديّة أو ماليّة أو إقتصاديّة علميّة. والهدف من هذا الكلام، توجيه رسائل في غير إتجاه، مفادها أنّ تعرّض لبنان لحصار إقتصادي ولعُقوبات دَوليّة، لن يُرغمه على الخُضوع للإملاءات الأميركيّة، لأنّ بحوزة لبنان خيارات رديفة.

خامسًا: إنّ المسألة لا تقتصر أصلاً على التحوّل من شراء حاجيّاتنا من ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة والدول الأوروبيّة إلى سواها، بل تتمثّل في خطر تغيير وجه لبنان وضرب ركائزه! وركائز لبنان التاريخيّة مَعروفة، وهي تتمثّل في المُستوى التعليمي العالي، وفي القُدرات الطبيّة والإستشفائيّة المُتفوّقة، في الخدمات السياحيّة المميّزة، وكذلك في الإقتصاد الحرّ والسرّية المصرفيّة التي كانت بالأمس القريب (وقبل الأزمة الأخيرة) محطّ جذب للإستثمارات الخارجيّة. وكل ما سبق مأخوذ-أو أقلّه مُستوحى، من مفاهيم ومن نماذج تعود إلى العالم الغربي، الأمر الذي تدلّ عليه العديد من أسماء المراكز الطبيّة والتعليميّة في لبنان، والعديد من المناهج والأساليب المُطبّقة فيه، إلخ.

من هنا، من الضروري عدم مُقاربة هذا الموضوع بشكل عشوائي وغير علمي، وبالتأكيد من الضروري عدم مُقاربته بخلفيّة سياسيّة. والإستمرار في المُكابرة في تحدّي العالم الغربي، وفي تحدّي ​العالم العربي​، يعني عمليًا خسارة دعم ومُساندة هذين الطرفين الأساسيّين في إستقرار لبنان على مدى عُقود مضت، خاصة وأنّ دول الشرق ليست جمعيّات خيريّة، بل هي دول لديها مصالحها التجاريّة والإقتصاديّة والماليّة، ولديها خلفيّتها السياسيّة أيضًا!.

وفي الخلاصة، لا همّ إذا توجّهنا شرقًا، أم في أيّ إتجاه آخر، فالمُهمّ هو أن نعتمد خُطّة إنقاذ مَبنيّة على أرقام واضحة وعلى حسابات دقيقة. وغير ذلك هو مُجرّد أوهام لن تُفيدنا بشيء، وستدخلنا في صراعات سياسيّة إقليميّة ودَوليّة نحن في غنى عنها، إضافة إلى أنّها ستُغيّر وجه لبنان! فهل هذا ما يريده اللبنانيّون؟.