مَن يُراقب عمل صيّاد السمك عن كثب يعي كم هذا العمل شاقّ ويَتطلّب جهدًا كبيرًا.

فالصيّاد يُجهّز الشبكة لتكون صالحة للصيد، فينظّفها بدقّةٍ كبيرة مِن الأعشاب البحريّة التي تَلتصَق بها، ولا يَدَع شيئًا يُمزّقها كي لا يتعطّل ​الصيد​، وإن تمزّقت فهو يتفحّص كلّ خيط فيها بتدقيق ويُصلِحُها، ويضع الطّعم في الشّبكة، ويتعب ساهرًا طوال الليل بصبر، ويعود في الليل التّالي إلى العمل ذاته مجدّدًا.

هذا كلّه دون أن ننسى أمرَين:

-الأمر الأوّل مخاطر البحر وهبوب الرياح التي لا تمزّق الشباك فحسب، بل تعرّض حياة الصيّادين للخطر.

-الأمر الثّاني وجود أشخاص يعملون معًا في كلّ مراحل الصيد، ويكونون قلبًا واحدًا.

بعد هذا الوصف المقتضب، لا ريب أنّ الربّ ​يسوع المسيح​ قد اختار صيادين ليكونوا مِن تلاميذه، إذ إنّهم سوف يحافظون على المهارة والعزم ذاتهما ولكن لهدف جديد، بعد أن يكون قد أعدّهم لصيد النفوس، وأضحوا جاهزين لخدمة الملكوت.

قد يكون عمل الصيد روتينيًّا بشكله الخارجيّ، ولكن ما يختلف فيه في كلّ مرّة هو الغنيمة.

وقد عبّر لي ذات مرّة صيادٌ بعد أن رافقته في رحلة صيد قائلاً: "نواجه أحيانًا ليالي صعبةً جدًا، فنضطرّ فيها إلى الانكفاء، ولكنّنا نعود إلى العمل مِن جديد عندما تهدأ العاصفة. نجاح الصيّاد يكمن في خبرته وحكمته وصبره وشغفه وحبّه للصيد. نحن نفعل ما يجب فعلُه على أكمل وجه، وهو موزّع الأرزاق"، وقد أشار بأصبعه إلى فوق أي إلى الله.

عمل الصيّاد درسٌ لاهوتيٌّ بامتياز، و​تفاصيل​ عمله ترسم لنا خارطة طريق:

١ـالشغف: محبّتنا لله يجب أن تكون حارّةً لا بل حارّةً جدًا. يقول الربّ في سفر الرويا: "هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي"(رؤيا ١٦:٣).

٢ـالإصلاح: هو الإصلاح الدائم لذواتنا حتّى تكون شبكتنا صالحة للصيد. وهذا يتطلّب منّا اتّضاعًا كاملًا واعترافًا بتواتر. أليس هذا ما أوصى به بولس الرسول ابنَه الروحيّ تيموثاوس: "لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا"(١ تي ٤: ١٦).

المصيبة الكبرى تكمن عندما نبشّر الآخرين مهملين أنفسنا، وواقعين بالانتفاخ والتكبّر، ف​الحياة​ في المسيح مراجعة دائمة للذّات، وتنقية مستمرّة لها.

٣ـالطُّعْم: ال​إنجيل​ هو الطُّعْم الذي نقدّمه للآخرين بنعمة الرّوح ​القدس​. نحن مؤتَمنون على ما تسلّمناه مِن إيمان ومدعوّون لنحياه قلبًا وقالبًا كي لا نكون عثرةً للناس ولا تتحقّق فينا هذه الآية: "لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ" (​رومية​ ٢٤:٢).

وهنا يتجلّى قول القدّيس مكسيموس المعترف(٥٨٠-٦٦٢م): "اللاهوت غير المعاش شيطانيّ". La théologie sans la science de la pratique est diabolique

٤ـالمثابرة: نحن نزرع والنّعمة الإلهيّة تُنمّي. ويجب ألّا نيأس أبدًا، ولا أن يُصيبَنا الكللُ أو الملل. لم تكن حياة الرسل سهلة في تبشيرهم. وقد كتب بولس الرّسول آيات كثيرة في ذلك، منها: "فَإِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِالْمَوْتِ(١ كورنثوس ٩:٤).

٥ـالرّياح المُعاكسة: لا يوجد حقبةٌ في التاريخ خالية مِن المعاكسات والاضطهادات ولن يكون، إن في العهد القديم أو الجديد. هذا الأمر طبيعيّ جدًا. وقد أخبرنا يسوع بذلك بوضوح تام: "إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ"(يو ١٥: ٢٠).

التّجارب كثيرة، والأفكار المضادة، وإن تنوَّعت واختلَفت، تبقى في مضمونِها واحدة لأنّ عدوّ ​الإنسان​، أي إبليس، ليس خلّاقًا.

مصير المؤمن جهادٌ حتّى الرمق الأخير، فالتّهاون ممنوع، "وَالَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ"(متى ١٣:٢٤).

٦ـالعمل المشترك: تشرح الرّسالة الأولى إلى أهل كورنثوس في إصحاحها الثّاني عشر بإسهاب هذا التعاضد وتحذّرنا مِن فخاخ الشيطان "لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ، بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَامًا وَاحِدًا بَعْضُهَا لِبَعْضٍ". فلكلّ عضو موهبة تكتمل مع موهبة الآخر مِن أجل البشارة الواحدة. "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا".

نهايةً، يقول إنجيل هذا الأحد: "فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا(سمعان وأندراوس) الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ(أي تبعا يسوع)(متى ٢٠:٤)".

الربّ لا يدعونا جميعًا لأن نكون رهبانًا وراهبات أو كهنة، ولكنّه يدعونا ألا نَدَعَ شبكةَ الأمورِ الدهريّة والفانية تَصطاد قلبنا فنخسر الملكوت.

فليصطدنا الربّ أينما كنّا ومهما كان عملنا، عندها فقط نَخلُصُ ونُخَلِّص معنا كثيرين.