بعد الكلام من هنا، والرد من هناك، والمواقف الاميركية والاسرائيلية والمحلية من موضوع ​سلاح حزب الله​ ومستقبل لبنان في ضوء التطورات في المنطقة، قرّر رئيس الجمهورية العماد ​جوزاف عون​ "بق البحصة"، وكشف عن بنود مسودة الرد اللبناني على الاقتراحات الاميركية التي تم تسليمها الى المبعوث الاميركي توماس براك. لا شك ان خطوة الرئيس عون اتت بعد ان رأى انه اصبح موضع اتهام باعادة احياء صيغة "الترويكا" واستفراده بالقرار، وانه المعني الاساسي بالموضوع كونه كان اول من اعلن قرار حصرية السلاح بيد الدولة (كمسؤول رسمي)، وتوليه ملف التفاوض مع حزب الله في هذا الموضوع.

تركز المسودة على ثلاثة محاور جوهرية تشكل نقلة نوعية في الخطاب الرسمي اللبناني. أولاً: التعامل المباشر مع ملف السلاح بشكل عام وسلاح الحزب بشكل خاص حيث تم ذكره بالاسم، وهو ما يضع حداً لكل الاتهامات والاقوال التي تصدر محلياً واقليمياً ودولياً في هذا المجال. هذا التطور يعكس إما "شجاعة" سياسية غير مسبوقة أو "ضغوطاً خارجية حقيقية" فرضت على القيادة اللبنانية اتخاذ موقف واضح.

ثانياً: يشكل طلب تخصيص مليار دولار سنوياً لمدة عشرة أعوام لتجهيز الجيش (بالتحديد) بأسلحة نوعية، تحولاً جذرياً في المقاربة الدفاعية اللبنانية. هذا المبلغ الضخم، البالغ عشرة مليارات دولار إجمالياً، يفوق بكثير أي استثمار عسكري سابق في تاريخ لبنان الحديث ويهدف لبناء قدرات عسكرية حقيقية قادرة على استيعاب المهام الأمنية والدفاعية التي كان حزب الله، ولا يزال، يعتبر انها غير واردة، وهو على حق.

ثالثاً: ​ترسيم الحدود​ مع سوريا يأتي كخطوة استراتيجية لحسم ملفات معلقة منذ عقود وإنهاء حالة الغموض التي تستفيد منها جهات عديدة لتهريب الارهابيين والسلاح والمخدرات وغيرها... هذا الترسيم سيضع إطاراً قانونياً واضحاً للعلاقات بين البلدين ويحد من الأنشطة غير المشروعة عبر الحدود.

ولكن، هل تتطابق حسابات حقل عون مع حسابات البيدر؟ خصوصاً وان المسودة تتضمن مطالب "جريئة" تتمحور حول إعادة هيكلة المشهد الأمني اللبناني بالكامل، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول جدية هذا الطرح وإمكانية تطبيقه. فيما الاهم يكمن في دفع اسرائيل الى التوقف عن اعتداءاتها والانسحاب من الاماكن اللبنانية التي تحتلها وتسليم الاسرى والبدء باعادة الاعمار، وهي نقاط ترفضها اسرائيل بالكامل، ما لم يتم التوقيع على اتفاق او تطبيع معها.

يمكن القول ان توقيت الكشف عن المسودة ليس عشوائياً، بل يهدف الى تحقيق عدة أهداف سياسية متداخلة، ومنها:

- الرد على منتقدي الرئيس عون الذين يتهمونه بمسايرة حزب الله والخضوع لإملاءاته، حيث يظهر الكشف عن هذه البنود موقفاً مغايراً تماماً.

- إعادة تموضع لبنان كدولة جدية في المفاوضات مع الولايات المتحدة، وليس مجرد وسيط أو منفذ لسياسات إقليمية أخرى. هذا التموضع يوحي بأن الهدف هو استعادة المبادرة اللبنانية في المفاوضات وإخراجها من دائرة الإملاءات الخارجية، وهي خطوة غير مسبوقة وتغيّر الرؤية تجاه لبنان من قبل مواطنيه ومن قبل العالم، ولكن من المستبعد جداً ان تحصل.

رغم الطموح الذي تعكسه هذه المسودة، تواجهها عقبات جوهرية تحول دون تحقيقها. فالموقف الأميركي التقليدي من تزويد ​الجيش اللبناني​ بأسلحة نوعية يبقى العقبة الأكبر، حيث رفضت واشنطن تاريخياً أي خطوات قد تغيّر ميزان القوى العسكري في المنطقة لصالح لبنان. هذا الرفض الأميركي المتوقع يستند إلى اعتبارات إسرائيلية واضحة تهدف للحفاظ على التفوق العسكري النوعي، وبالاخص بعد ان باتت "شرطي الشرق الاوسط". هذا التحيز الأميركي المتزايد لإسرائيل، خاصة في ظل ​التطورات الإقليمية​ الراهنة، يجعل احتمالية الموافقة على هذه البنود ضئيلة، اذ ان واشنطن قد تجد في هذه المطالب تهديداً مباشراً للأمن الإسرائيلي، وهو ما لم تسمح به لكل جيوش المنطقة، فكم بالحري للجيش اللبناني؟.

الرفض الأميركي المتوقع قد يعيد لبنان إلى نقطة الصفر، وربما إلى أزمة سياسية وأمنية أعمق. في المقابل، أي تجاوب أميركي إيجابي، ولو جزئي، قد يفتح آفاقاً جديدة لبناء دولة قوية قادرة على ضبط أراضيها وحدودها وقراراها السيادي. من هنا، يبقى السؤال: هل سيدفع عون ثمن خطوته هذه؟.