ليس جديداً على رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ أن يرعى حوارات سياسية ذات غاية وطنية، ولا أن ينظّم لقاءات مع قياديين على خط ضبط إيقاع الساحة الداخلية. لكن تكتسب خطوات بري أبعاداً إضافية هذه المرّة، إنطلاقاً من الخطورة التي يمر بها لبنان، إقتصادياً ومالياً، وهو ما إنعكس سلباً على معيشة المواطنين الذين دخلوا مسيرة العوز. من هنا تكتسب مساعيه أهمية، بإعتبار أن المعالجة بكل أوجهها السياسية والاقتصادية، تتطلّب رص الصفوف الداخلية، بدل التباعد السياسي والمجتمعي.

دلّت الأشهر الماضية منذ استقالة الحكومة السابقة أنّ لبنان يدفع ثمن نزاعات وخصومات قواه الداخلية، قلقاً وتخبطاً. واذا إستحضرنا مسار التعاطي اللبناني مع صندوق النقد الدولي، يتبيّن أن تعدد الرؤى كاد يطيح بطلبات الحكومة للحصول على قروض مالية ضرورية. على هذا الأساس يمكن القياس، في حين كان الشارع على وشك التفلّت الميداني لإدخال لبنان في دورة الفوضى.

تأتي مبادرة بري في حث القوى على توحيد خطوات مواجهة التحديات والمخاطر في مكانها الوطني الطبيعي، سواء في المصالحة التي رعاها بين القطبين الدرزيين: رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" ​وليد جنبلاط​ ورئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" ​طلال ارسلان​، أو في العمل لإنجاح حوار بعبدا المرتقب في ٢٥ حزيران الجاري. لكن هل ترتقي كل القوى السياسية إلى مستوى التجاوب مع مسار تقريب المسافات بين الشخصيات المتخاصمة؟

توحي كلّ لقاءات عين التينة أن القوى السياسية تتجاوب مع مساعي رئيس المجلس. هو قادر على إقناعهم بجدوى المصالحات وفتح صفحات سياسية جديدة تحاكي المرحلة الحالية الصعبة. اساساً يحتل بري مكانة مرموقة عند كل القوى التي تعرف أنه يشكل مساحة جمع وطني. هو ما سمعه رئيس المجلس ايضاً من سفير مصر في لبنان الذي نقل إليه موقف القاهرة وكل عواصم العرب بدعم أي خطوة يقوم بها بري لإبقاء الساحة اللبنانية مستقرة، وفتح باب المعالجات على كل صعيد. كما تعرف القوى الداخلية أن حجم الأزمات الإقليمية والدولية وعدوانية ​إسرائيل​ الدائمة تحتّم التجاوب مع طلبات رئيس المجلس. وتعرف ايضاً ان الحلول المالية والاقتصادية تتطلّب تكاتفاً داخلياً، لأن أي إنفلات للشعب الذي يئن فقراً، سيرمي البلد في مجهول طويل الأمد.

لكن هناك حسابات سياسية داخلية موجودة اساساً عند كل القوى المعنية بالحوار، تعيق الوصول الى غايات نبيلة. أظهر حجم الإنقسام السياسي أن هناك تموضعات قائمة أو تتظهّر حتى موعد الإنتخابات نيابية أو رئاسية. وحدهما حركة "أمل" و"​حزب الله​" منفتحان على كل القوى الوازنة، بإستثناء الخصومة القائمة بين الحزب المذكور و"القوات". يُظهر حراك بري الاّ مشكلة في علاقات الحركة مع كل القوى السياسية، بينما تظهر خصومات كل من "القوات" و"المردة" و"المستقبل" و"الإشتراكي" مع التيار "الوطني الحر". وهو ما يفرض إستنتاج أن هناك حلفا ثلاثياً ضمنياً بين ​سعد الحريري​ و​سليمان فرنجية​ ووليد جنبلاط. اما "القوات" فتبقي اتصالاتها قائمة مع "الإشتراكي" فقط، ولا تُخفي اي مشكلة مع "المردة"، بينما تشوب علاقتها ب​بيت الوسط​ أزمة واضحة لم يستطع ان يبددها أي فريق داخلي، بغياب اي تدخل خارجي مؤثر على الفريقين كالسعودية او ​الإمارات العربية​ او الولايات المتحدة الأميركية.

هل تبقى هذه التحالفات قائمة حتى موعد الاستحقاقات، وبالتالي تؤثر على طموح المطروحين للرئاسة؟. يبدو أن البحث بدأ يدور عملياً عن محطات الاستحقاقات، لكن بدءاً بالحكومة التي تأجل أمر بت مصيرها بإنتظار محطتين: التفاوض مع صندوق النقد وجهوزية البديل الوازن.

لكن كل تلك الحسابات لا تُلغي وجوب رص الصفوف الداخلية، لمواجهة استحقاقات صعبة، خصوصا ان الهمس يزداد حول عدوانية إسرائيلية محتملة في أي ساعة.