واقعياً، لا توحي المؤشرات أنّ الأشهر المقبلة ستكون أفضل من الأشهر الفائتة. السبب واضح: لا حلَّ ممكناً إلّا بالإصلاح، لكن قوى السلطة ستتملّص من هذا الإصلاح، إلى ما لا نهاية، لأنّه يشكّل انتحاراً لها. وإزاء هذا التدهور، هناك ثلاثةٌ عُرضةٌ للسقوط: حكومة دياب، ثم عهد عون، ثم صورة لبنان القائم حالياً. وقد تشاء الظروف أن يسقط الثلاثة دفعة واحدة!

في الأيام الأخيرة، إنشغلت القوى السياسية بملهاةٍ جديدة: إذا كان الأميركيون، والغربيون عموماً، يستغلّون ضعف لبنان ليشترطوا أن «لا مساعدات إلّا بالإصلاح»، فالحل جاهز: إنّه الصين. وفي رأي بعض المتحمّسين، أنّ «حلفاءنا هناك يبحثون عن أسواق جديدة، وسيساعدوننا بلا شروط، ونكاية بالأميركان»!

هذا المناخ، في تقدير الأوساط الخبيرة، سيكون مقدّمة لصدمة سياسية واقتصادية جديدة، تنتهي بمزيد من الإحباط. فالقوى السياسية التي تراهن اليوم على الصين، هي نفسها راهنت على روسيا، في النصف الأول من عهد الرئيس ميشال عون، في محاولة لـ»زكزكة» الولايات المتحدة وفرنسا لتحريك «سيدر» وسواه. وبلغت المحاولة ذروتها خلال زيارة عون لموسكو.

تلك المحاولة فشلت بسبب الاعتراض الأميركي القاسي، والتلويح بوقف المساعدات للبنان، بل تصعيد العقوبات. واليوم، «المناخ الصيني» مشابه. وصحيح أنّ بكين تعملقت في منافسة واشنطن أكثر من موسكو، فإنّ الاستعانة بها يجب أن تكون متعقِّلة وواقعية، كما يفعل الإسرائيليون. أما أن يضع لبنان رِجلاً في الشرق وأخرى في الغرب، فلا بدّ من أن ينفسخ!

فوق ذلك، تجزم الأوساط، أنّ الصين تشترط الإصلاح، كما الولايات المتحدة، لإطلاق مشاريعها. فمعروف عن الدولة الصينية أنّها تدخل الأسواق براغماتياً، وبعد دراسات دقيقة للأرباح. وهي تستغلّ فشل أي مشروع لتضع يدها عليه، فيصبح مُلكاً لها. والنماذج متعددة في دول آسيوية وإفريقية.

فالأرجح أنّ «اللعبة الصينية» سرعان ما «ستفرط» في أيدي اللبنانيين. وسيكتشف طاقم السلطة أنّه خسر الغرب ولم يربح الشرق، وأنّ البلد دفع في المقابل أثماناً باهظة بسبب الغضب الأميركي، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على المفاوضات الدائرة مع صندوق النقد والجهات المانحة الأخرى التي تمون عليها واشنطن.

وفي ظلّ استفزاز الأميركيين، ستكون العلاقة عسيرة مع الجهات الدائنة التي توقَّف لبنان عن الدفع لها. ويمكن توقُّع دعاوى قضائية تستهدفه، ومزيد من العقوبات. وفي هذه الأثناء، سيبلغ الاهتراء الاقتصادي والمالي والنقدي ذروته، بسبب تأخُّر الحلول. والدليل هو الانهيار الدراماتيكي لليرة في السوق السوداء، أي سوق التداول الحقيقية.

على رغم الكارثة الآتية، تتجاهل قوى السلطة عمق المشكلة، أي الإصلاح بمعناه العميق والشامل، وتحديداً بمضمونه السياسي: إصلاح القضاء، تنقية القطاع العام، الشفافية في التلزيمات وإدارة المؤسسات والمرافق والأجهزة، استعادة الأموال المنهوبة وبدء المحاسبة وسوى ذلك.

المعنيون يدركون أنّ الإصلاح الإداري والاقتصادي والمالي لا يتمّ فعلاً إلّا ضمن سلّة واحدة مع الإصلاح السياسي، بحيث تشمل وقف التهريب والسيطرة على المرافئ والمعابر والتهرٌّب الضريبي وتمكين الدولة من بسط سلطتها على كامل مواردها. وهذا يعني نزع عدد من أوراق القوة من أيدي القوى النافذة، ولا سيما منها «حزب الله». وتالياً، إجراء انتخابات نيابية غير معروفة النتائج مسبقاً، تفرز سلطتين تشريعية تنفيذية جديدتين.

هذا التغيير الجريء لا يناسب إطلاقاً قوى السلطة: لا قوى 8 آذار، التي شاءت الظروف أن تكون لها الغلبة اليوم في السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولا قوى 14 آذار التي بقيت حتى 5 أشهر خلَت شريكةً مع خصومها في لعبة السيطرة، تحت مظلّة الفساد الآمن.

اليوم، وصلت الرسائل واضحة إلى الذين يعنيهم الأمر، وخصوصاً إلى رأسي الحكم والحكومة، عون ودياب، اللذين أصبحا في مواجهة عارية مع حتمية السقوط.

طبيعة دياب، البسيكولوجية ربما، تدفعه إلى السكون. وكذلك وضعيته السياسية. فهو ليس زعيماً سياسياً «يعمل لآخرته كأنّه يعيش أبداً». هو يفضّل أن «يدَع الموتى يدفنون موتاهم»، ويتفرج من بعيد، فلا يحرق أصابعه، لعلّه يطيل عمر الحكومة قدر الإمكان.

أما عون فليست هذه طبيعته، لا في البسيكولوجيا ولا في الزعامة. وطبيعي أن لا يفكر في عهد الـ6 سنوات الذي يمرّ الآن فحسب، بل أيضاً في عهد الـ6 الآتي.

لذلك، في الفترة الأخيرة، ظهرت ملامح تكتيك سياسي داخل الفريق الواحد، قوامُه عون ورئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل ووزراؤه ونوابه. فنواب «التيار» يَظهرون وكأنّهم يعترضون على الخطة المالية التي وافق عليها رفاقهم الوزراء داخل الحكومة. وبات عون مستعجلاً إلى احتضان الحوار، في دور «بيّ الكل»، فيما انبرى باسيل مقاتلاً بسيف الإصلاح.

الأرجح أنّ دياب وعون، والداعمين للحكومة والعهد، يلعبون آخر أوراقهم قبل بلوغ الاستحقاق الأخير: الإنقاذ أو الانهيار. والمعيار الوحيد سيكون: التزام الإصلاحات أو استمرار التنكّر لها. والمثير، أنّ القوى السياسية كلها تدرك أنّ عواقب الإصلاح هي الانهيار والوقوع تحت قبضة القوى الخارجية، غربية كانت أو شرقية، لكنها تمضي في الفساد!

وهذا يستدعي السؤال الآتي: هل الفساد الذي يدفع بلبنان إلى الانهيار يلقى تشجيع جهات خارجية بهدف إضعاف البلد وإخضاعه لخياراتٍ يرفضها؟

في اختصار، لبنان يتجّه سريعاً إلى حيث لا رجعة، أي إلى تكريس حال التفكُّك التي تعانيها الدولة القائمة حالياً ومؤسساتُها وأجهزتها ومرافقها وقطاعاتها. وهذا ما قد يشكِّل تهديداً، ليس للحكومة والعهد فحسب، بل لصورة الكيان اللبناني. فالدولة في لبنان تَحْمِل بُعداً ميثاقياً، وإذا جرى الإخلال به يَختلُّ الميثاق ويصبح عرضةً للسقوط أيضاً.