لا تزال المشاكل تعصف ب​لبنان​ من كل ميل وصوب، وفيما يعمد المسؤولون الحاليون الى "تحصين" انفسهم في وجه العواصف، يستغلّ المعارضون لهم كل فرصة ولا يتورّعون عن اختراع فرص اخرى لتنحيتهم. يحاولون اقناعنا في لبنان، وبالقوّة، ان نظامنا رئاسي، وانه على غرار دول ك​فرنسا​ و​الولايات المتحدة​ الاميركيّة وغيرها، فإنّ حلّ المشاكل يكون بتغيير رئيس الجمهوريّة. كم من مرّة يجب ان نخوض هذا الجدل العقيم والواضح للعيان، بأن رئيس الجمهورية يمارس بعض الصلاحيّات فقط، وان الكلمة الاكبر والافعل هي لمجلسي النواب والوزراء. هكذا كان التعامل في بعض الاوقات مع الرئيس الراحل ​الياس الهراوي​ عندما كان يدبّ الخلاف بينه وبين رئيس الحكومة الراحل ​رفيق الحريري​، وتكرّرت المسألة مع الرئيس الأسبق ​اميل لحود​ ايضاً، ثم مع الرئيس الأسبق ​ميشال سليمان​، قبل ان تظل برأسها حالياً مع ​الرئيس ميشال عون​.

لم ينعم ايّ عهد من العهود السابقة، ان في ظل الهيمنة السوريّة على لبنان او بعدها، بفترة خالية من محاولات اضعافه وتهميشه لتصويره وكأنّه مجرد منصب شرفي. وما يثير الحفيظة والغضب، هو انه ما ان تلوح بوادر الانتخابات الرئاسيّة، حتى "يتقاتل" الموارنة على المنصب، وتتدافع بقيّة الطوائف لايصال مرشّحها الى القصر الجمهوري في تناقض قلّ نظيره في التعاطي السّياسي في أيّ دولة في العالم. فإذا كان الرئيس فاقد لمعظم الصلاحيّات ولا يصلح سوى لمنصب معنوي، فلماذا هذا التقاتل والتدافع؟.

هذه "العدوى" انتقلت في العقود الاخيرة، وبالتحديد مع آل الحريري، الى مقام ​رئاسة الحكومة​، بحيث يتم تصوير الامور بأنها "جنّة على الارض" عندما يكون آل الحريري في السراي الكبير، وبأنها "الجحيم المشتعل" عندما يغادره، علماً ان التجربة اظهرت ايضاً أنّ هذه النظرية فاقدة للمنطق والمصداقيّة بدليل ما واجه لبنان من تراكمات للمشاكل والمصائب في السنوات الثلاثين الماضية من عمره. وحده مقام ​رئاسة مجلس النواب​ يحيد عن هذا الدرب، للاسباب المعروفة والتي تختصر باتفاق المذهب الشيعي على شخص واحد لتولّي هذا المنصب.

اليوم، نقف مجدداً امام عتبة "لعبة الكراسي" السخيفة، فيما يصرخ الجميع، موالون ومعارضون، اننا اصبحنا في قلب الهاوية وليس على حافتها، وان من يصمد بعد هذه الضائقة غير المسبوقة سيكون قد دخل التاريخ. وفي خضمّ الصراع بين الاتجاه غرباً او الاتجاه شرقاً، تعلو الاصوات مجدداً الداعية الى خروج عون وحسّان دياب من السلطة. حتى هذا الحدّ، تبدو هذه الامور مشروعة وقانونيّة، ولكن فلنختبر السيناريو الذي يتم الترويج له، وقرّر عون ودياب كلاهما الخروج في الوقت نفسه من السلطة، هل سنقف امام الحلّ الشامل للمشاكل اللبنانيّة؟ هذا هو قمّة الوهم، ومن لا يزال يعتبر من المواطنين ان المسألة داخليّة بحت، فهو إمّا مضلَّل او لا يرغب في تقبّل الحقيقة، ومن يروّج من الزعماء والمسؤولين السّياسيين انّ هذا هو الحل، فهو من ابرز المضلِّلين والمخادعين واللاهثين وراء المناصب. اختبرنا الفراغ الرئاسي لفترة طويلة من الوقت، كما عايشنا الفراغ الحكومي لفترة غير قصيرة ايضاً، وبقيت الامور تسير على حالها. من هي هذه الشخصية أكانت من الموارنة أم من السنّة، التي تستطيع ادارة ظهرها لكل الطوائف والمذاهب والدول الفاعلة وحساسية "الولاء للزعيم"، القادرة على تسلّم زمام الامور والضرب بالعصا السحريّة لتنقل لبنان من حال الى أخرى، عبر الخوض في تغييرات جذرية مطلوبة ولكنها مستحيلة في البلد؟ حين كان التناغم قائماً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، كانت التسويات والمراعاة قائمة ايضاً، وحين كانا على خلاف، لم تُدفن هذه التسويات، بل كانت تتنقل من مكان الى آخر، وهي الوحيدة التي لا تموت والتي لا تتغيّر مهما تغيّرت اسماء واشكال اللاعبين المحليين.

بعد كل ما حصل، وما نعيشه حالياً من فترات لم نعهدها في حياتنا رغم كل ما مرّ علينا من ويلات ومصاعب على مرّ التاريخ، اصبح من المنصف القول أنّ تحويل حلم العيش في بلد مثالي كغالبيّة دول العالم الى واقع ملموس، هو هدف بعيد المنال، والمسؤوليّة هذه المرّة تقع على الجميع دون استثناء، نعم "كلّن يعني كلّن" بمن فيهم ​الشعب اللبناني​ نفسه.