يواجه ​لبنان​ أزمة مستمرة في ​قانون الانتخابات​ النيابية، حيث تتقاطع مصالح ​المغتربين اللبنانيين​ مع التعقيدات الطائفية والسياسية المحلية. هذه الأزمة ليست مجرد خلاف تقني حول آليات التصويت، بل تعكس صراعاً أعمق حول هوية لبنان السياسية ومستقبل احزابه وتياراته الطائفية. قانون الانتخابات الجديد (اقرّ عام 2017 واعتمد النسبية وتقسيم لبنان الى 15 دائرة انتخابية)، لحظ ولاول مرة حقوق المغتربين في الاقتراع، وصوتوا بالفعل عام 2018، وتضمن القانون إضافة ستة مقاعد خاصة بالمغتربين في انتخابات 2022، لكن هذا البند تم إلغاؤه لاحقاً. تكمن المشكلة الأساس في التناقض بين رغبة المغتربين في التأثير على السياسة اللبنانية وخوف القوى السياسية المحلية من فقدان نفوذها. المغتربون، الذين يقدر عددهم بحوالي 16 مليون نسمة مقارنة بـ4 ملايين مقيم، يمثلون قوة انتخابية هائلة قد تغيّر موازين القوى. وعلى الرغم من ان المسجّلين للاقتراع لا تتخطى نسبتهم الـ10% من مجموع المغتربين، الا ان الخلاف حولهم كبير جداً ويتخطى الاهداف والمشاريع، الى قضية وجود ونفوذ بالنسبة الى الاحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.

اما الدولة، فتتحدث بالسر والعلن انها عاجزة عن فرض اي شيء، لان امكاناتها المادية محدودة جداً، ولا يمكنها التأثير بالقرار السياسي، فهي بالتالي "بريئة" من كل ما يحصل، وتتحدث اكثر عن صراع طائفي بين اللبنانيين حول هذه النقطة تحديداً. وفي الواقع، تخشى بعض القوى السياسية من أن تصويت المغتربين خصوصاً وان توزيعهم الطائفي يختلف عن توزيع السكان المقيمين. ولا يمكن نكران البصمة التي تركها المغتربون في انتخابات 2022، رغم عدم وجود مقاعد مخصصة لهم.

لا بد من إصلاح القانون الانتخابي في لبنان، ولكن من يجب عليه اصلاحه، من المهم ان يكون على قدر كبير من الموضوعية، وبعيد كل البعد عن المصالح الشخصية والحسابات الضيقة، وهو ما ليس متوافراً بعد لدى مجلس النواب القائم على الطائفيّة، باعتراف الجميع. ومع التسليم بوجوب الابقاء على المساواة والمناصفة بين المسيحيين والمسلمين تحت قبة البرلمان، يجب ايضاً التشديد على ان يكون القانون الانتخابي حديثاً ويراعي التطورات والتغييرات الحاصلة (ليس من وجهة نظر طائفية وحتى سياسية، بل من وجهة نظر واقعية تؤسس لقانون طويل الامد)، ويضمن التمثيل الصحيح للناس اكانوا مقيمين او مغتربين.

اليوم، يقف مسيحيون ومعهم بعض القوى التغييرية، مطالبين بتغيير القانون الحالي واعطاء هامش اكبر للمغتربين، على عكس ما ينادي به الثنائي الشيعي مثلاً، الذي يعتبر ان المغتربين سيقترعون نسبة الى التأثير الذي يتعرضون له في اماكن اقامتهم، وخصوصاً في الولايات المتحدة واوروبا.

حتى اليوم، لاتزال ابواب مجلس النواب صامدة في وجه تغيير القانون او تعديله في ما خص المغتربين وتصويتهم، ومن المستبعد ان تكون "الثالثة ثابتة" بالنسبة الى المغتربين ليقترعوا وفقاً لرغبتهم، فيما الواقع يقول بأنه يجب اجراء تعديلات جوهرية على قانون الانتخاب المعمول به حالياً، وان يتحمل المغتربون مسؤولية قراراتهم الانتخابية. ويمكن تشبيه هذا الامر بالانتخابات على الصعيد المحلي، حيث يحق لمن قضى كل حياته في بيروت مثلاً ان يتحكم في نتائج الانتخابات في مسقط رأسه (اياً يكن هذا المكان في الشمال او الجنوب)، علماً انه لا يقطن في "القرية" او المدينة التي يتحدر منها ولا يربطه بها سوى رقم القيد ومكانه.

وعلى الرغم من كل المحاولات، لا يبدو ان تغييراً ما سيطرأ على هذه المسألة، بسبب عدم حماسة الدولة لتنفيذ اي تعديلات يمكن ان يشهدها قانون الانتخاب بذريعة عدم توافر الاموال والامكانات اللوجستية، فيما يتعارك النواب لابقاء الستاتيكو الحالي للاحزاب والتيارات السياسية على حاله، وضمان عدم زيادة نفوذ بعض الاحزاب على حساب البعض الآخر، او تنامي قوة ما يسمى بالمستقلين الذين لم تكن تجربتهم ناجحة في المجلس النيابي، وسرعان ما انقسموا وتشتتوا بدل ان يكونوا كتلة واحدة تستمد قوتها من مبادىء واهداف خارج اللائحة التي اعتاد عليها اللبنانيون منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم.