بعد التحرير في العام 2000 و بعد تثبيت ​منظومة​ الأمن ال​لبنان​ي الذي اتخذت عامودها الفقري ​الجيش اللبناني​ و ​قوى الأمن الداخلي​ بمؤازرة و مساندة غير مباشرة من الجيش العربي السوري الذي كان منتشرا في بعض مناطق لبنان خاصة ​البقاع​ و ​الشمال​ و بعض الجبل و ​بيروت​ ، و في ظل استمرار المقاومة على سلاحها في مواجهة ​إسرائيل​ حصرا دون ان يكون للسلاح وظيفة أخرى ، في ظل هذه ​البيئة​ الأمنية صنف لبنان عالميا بين الدول الخمس الأكثر امننا في ​العالم​ ، و لطالما كان يباهي العماد أميل لحود بهذا التصنيف في السر و العلن حيث كان يعتبره ثمرة من ثمار عمله في الشأن العام من ​قيادة الجيش​ إلى ​رئاسة الجمهورية​ .

بيد ان الأمن اللبناني تعرض ل​زلزال​ عنيف ضربه عندما استهدف الرئيس السابق للوزراء ​رفيق الحريري​ بعملية اغتيال أودت به مع جمع من مرافقيه و أشخاص تواجدوا صدفة في المحلة التي حصل الانفجار فيها ، و فتح ذاك الانفجار باب المخاطر الأمنية على لبنان على مصراعيه ، و قد بدا يومها ان الانفجار خطط له ليكون الممهد لتنفيذ ​القرار 1559​ الذي كان قد اعتمد في ​مجلس الأمن​ قبل 5 اشهر من التفجير و ان يكون (أي الانفجار القاتل ) جزءا من مسار يبدا به يليه إخراج الجيش العربي السوري ثم تكون فتنة و اقتتال داخلي يعقبه حرب إسرائيلية على لبنان إلى ان ينتهي الأمر بتفكيك المقاومة ونزع ​السلاح​ المقاوم و الانتقام من نصرها في العام 2000 بتحرير ​جنوب لبنان​ .

و في التنفيذ نجحت الخطة-المؤامرة في مواطن و فشلت في أخرى لا بل حصدت نتائج عكسية فيها ، حيث استجابت سورية لمتغيرات البيئة الاستراتيجية في لبنان و سارعت إلى استعادة جيشها منه دون ان تفسح لاحد المجال بإغراقها في وحول تتشكل في لبنان ، لكن الخطة فشلت في إنتاج حرب أهلية لان المقاومة و أهلها مارسوا الذكاء و الصبر الاستراتيجي و الحكمة البليغة و المرونة العالية ففوتوا فرصة الحرب الأهلية ، أما حرب إسرائيل على لبنان فقد انتهت إلى عكس ما اشتهى المخطط و حققت نتائج سلبية فرضت على المخطط ان يتحول في مواجهة المقاومة من استراتيجية الحرب بالقوة الصلبة إلى الحرب بالقوة الناعمة و بعدها إلى الحرب بالقوة المركبة الذكية ، وصولا كما هو اليوم ما أضيف اليها من حرب اقتصادية شاملة و إرهاب اقتصادي أجرامي .

نعم ان لبنان والمقاومة فيه وكل محور المقاومة يتعرضون إلى حرب اقتصادية تكاد تحل محل الحرب بالقوة المركبة الذكية التي فشلت خلال السنوات العشر الماضية من ​تحقيق​ أهدافها، رغم أنها قتلت وشردت ودمرت في سورية والإقليم بشكل وحجم ما ليس له سابق او مثيل، والخطة الجديدة التي تقوم على هذه الحرب الخسيسة تتضمن التجويع المنتج لخلل أمني يقود إلى فتنة فحرب أهلية تمهد الطريق أمام إسرائيل لتنفيذ المهمة التي عجزت عنها في العام 2006.

ان الحرب الاقتصادية التي تشن على لبنان اليوم تترجم بهجوم كيدي لئيم ينفذ وفقا لخطة ​محكمة​ تتضمن عزل لبنان عن سورية ب​قانون قيصر​ ، مترافقا مع مضاربة على العملة الوطنية حتى انهيارها الكلي و حرمان المواطن من لقمة عيشه و فرض التجويع الظالم عليه ما يدفعه إلى الشارع مطالبا بقوت أبنائه ، ويضعه أمام ​القوى الأمنية​ التي ستكون عرضة لاختبارات قاسية هي الأخرى لأنها ستوضع بين نارين : نار مقتضيات الأمن و النظام و نار مطالب الشعب المحقة ، ثم تكون الالة الإعلامية المعادية قد جهزت كل شيء للتحكم بالغضب الشعبي و تحويله باتجاه ​سلاح المقاومة​ ثم باتجاه بيئة هذا السلاح ثم إظهار الصراع على انه طائفي مذهبي كما تقتضي الخطة .

وعليه تكون مواطن الخطر في لبنان تبدأ بالحرب الاقتصادية وعمادها الخنق الإقليمي وانهيار النقد الوطني المنتج للجوع، ثم التشرذم السياسي وتغييب فكرة الوحدة الوطنية التي تحصن البنية الداخلية، تغييبا يكون ضروريا لإشعال الفتنة الداخلية الممهدة للعنصر الثالث من الخطة تلك، أي الحرب الإسرائيلية التي تأمل إسرائيل ان تكون سريعة خاطفة تعيد إلى الأذهان تاريخ الحروب الإسرائيلية ​الصاعقة​.

ومن يدقق اليوم بالمواقف والتطورات يجد ان الخطة هذه وضعت على نار حامية، حيث أطلق قانون خنق سوري بيد أميركية واسمي "قانون قيصر"، وبدا الانهيار المتمادي يفتك ب​الليرة اللبنانية​، وامتنع الفريق السياسي الذي تتحكم به ​أميركا​ من المشاركة في تظهير صورة وحدة وطنية تحصن الأمن القومي اللبناني، وتتصاعد الأحاديث كما الممارسات التي توحي بان شهر أب او أيلول المقبل سيشهد حرب إسرائيل الأخيرة على المقاومة ولبنان حرب تدمر ولا تبقي ولاتذر حرب تكون السهم المسموم القاتل الأخير للمقاومة كما ولبيئتها. فهل تنجح الخطة-المؤامرة تلك؟

لقد اختار عدو المقاومة وعدو ​الشعب اللبناني​ عناصر وأدوات غير مشروعة لا بل اعتمد الأجرام الموصوف في وضع خطته تلك التي استندت إلى التجويع الممهد لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية واختار الفتنة التي تترجم نارا بين الأخوة والشركاء في الوطن واختار النار الحارقة والمدمرة التي تتوسل اليها إسرائيل، اختار الأجرام وهو يظن ان النتائج هذه المرة ستكون مضمونة.

وفي المقابل نجد المدافعين الحقيقيين عن لبنان وضعوا استراتيجيتهم الدفاعية وهم يأملون منع العدو من تحقيق أهدافه وهنا نسجل بتقدير عالي جدا مواقف ​السيد حسن نصر الله​ في كلمته المتلفزة الأخيرة والتي تعتبر فعل ردع محكم بامتياز وتختصر بالقول " أننا واعون لمؤامرتكم وسنقتلكم قبل ان تقتلونا " وأرسي في مقابل معادلة العدو " الاستسلام او القتل جوعا" معادلة "الرحيل عنا او تقتلون".

أما ​رئيس الجمهورية​ فقد سارع إلى الدعوة إلى لقاء وطني ليس المطلوب منه أكثر من صورة جامعة وموقف وطني يرفض الفتنة ويمنع المواجهات في الشارع ويخفف عن القوى الأمنية أعباء إضافية لحفظ الأمن والنظام، وصحيح ان من هم مسيرون من الخارج امتنعوا عن الحضور خدمة لما يخطط للبنان ألا أننا لا نرى غيابهم سيسقط المشهد الوطني شبه الجماعي على رفض الفتنة لأنهم رغم غيابهم لم يجرؤوا على إظهار مواقفهم الحقيقية بل نسبوا الغياب إلى مواقف شخصية من هذا او ذاك ممن هم في ​السلطة​.

أما المعضلة الأهم و الأصعب فتبقى متمثلة في الموضوع الاقتصادي و الانهيار النقدي ، و هنا التحدي الأولي الأكبر و على ​الحكومة​ ان تواجه هذا التحدي بكل شجاعة و عزيمة وطنية و تتخلى عن النهج التقليدي اللبناني التحاصصي و توقف حماية ​الفاسد​ين و عليها ان تدرك و تتصرف على أساس هذا الأدراك ان المستفيد من ​الفساد​ لا يمكن ان يكون داعية إصلاح فقواعد المنطق و القانون الطبيعي تؤكد بان المخرب الهدام لا يدعى للبناء والقاتل المجرم لا يدعى لحفظ الأمن والفاسد المفسد لا يوكل اليه الإصلاح والسارق الناهب لا يؤتمن مجددا على ​المال​ العام و المتعامل مع العدو لا يدعى للتحرير.

ان لبنان يواجه التحدي الاقتصادي والأجرام الاقتصادي القاتل الذي سيبلغ أهدافه ويحققها ان لم تكن هناك مواجهة جدية لوقفه، وهذا المواجهة يجب ان تبدأ بإزاحة كل من ساهم بالانهيار وأصغى إلى الأملاء الأميركي في إنتاجه وعلى المسؤول ان يعلم ان اتكاء الموظف اللبناني على القوة الأميركية لتحميه يعني فشل لبنان في المواجهة لان ذاك الموظف سينفذ خطة أميركا ولا يعير وزنا لمصلحة لبنان.

وإذا لم يواجه التحدي الاقتصادي كما يجب فان التحدي الأمني الذي سينتجه الجوع سيكون ثقيلا وسيفرض على الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية أعباء قد تنؤ أكتافهم عن حملها رغم ما لديهم من قوة ومن وطنية ولكن يجب ان نتذكر ان لكل شيء حد ولكل مكون طاقة لا يمكن ان يتعداها وهذا ما نخشى منه في المسالة الأمنية ان تتعدى الأمور طاقة ​الدولة​ وعندها ستضطر المقاومة وخلافا لنهجها ان تعمل في الداخل حماية لنفسها وللسلم الأهلي. وستضطر المقاومة لذلك لأنها تعلم ان الانهيار الأمني في الداخل هو بطاقة دعوة جدية لإسرائيل لشن الحرب الاستلحاقية على لبنان ولنتذكر ان ​حرب 2006​ لم تنته بعد بوقف ​إطلاق النار​ بل جل ما جاء به ​القرار 1701​ هو وقف الأعمال القتالية التي يمكن ان تستأنف في أي لحظة.

وهنا ورغم ثقتنا بان ما يحلم به المخطط هو وأوهام يصعب تحققها، وان الفتنة في الداخل لن تترك لتتحول حربا أهلية، وان إسرائيل لن تجرؤ وتستأنف الحرب لان ما بيد المقاومة من قوة كافي وأكثر من كافي ليقنع إسرائيل بان حربها على لبنان انتحار لها، ما يعني ان تحديان من ثلاثة مقدور عليها وبكفاءة عالية رغم الكلفة لكن يبقى التحدي الاقتصادي المخل بالأمن الاجتماعي على وجوهه كلها، يبقى هو الموضوع الأهم الأن الذي يجب ان يعالج قبل فوات الأوان.