كما عدّاد "​كورونا​" اليوميّ الذي تصدره ​وزارة الصحة​ يومياً، ويرصد عدد ​الإصابات​ بالوباء ​العالم​يّ العابر للقارات، عدّادٌ آخر بدأ التداول به بشكل مكثّف في عطلة نهاية الأسبوع، ألا وهو عدّاد "​الانتحار​"، أو ربما عدّاد ​ضحايا​ الجوع والعوز في ​لبنان​.

وعلى رغم أنّ "الانتحار" محرَّمٌ في كلّ الأديان والتشريعات، وأنّه ليس حلاً للأزمات، إلا أنّ هذا "العدّاد"، برمزيّته، قد يكون الردّ الأسطع على أقاويل البعض بأنّ أحداً لا يموت من الجوع في لبنان، وأنّ "التضامن الاجتماعي" لا يزال له بالمرصاد، رغم كلّ الصعوبات والمعوّقات.

الواضح أنّ هذه الشعارات، ولو كانت النيّة خلف رفعها صادقة، باتت زائفة، أو ربما من الماضي، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى أنّ الجوع لم يعد الاستثناء بل ​القاعدة​ في ظلّ الغلاء الفاحش، الذي حوّل الكثير من متوسّطي الحال، أو ربما الميسورين، إلى فقراء جُدُد...

مؤشّراتٌ مقلقة...

قد يقول قائل إنّ ظاهرة الانتحار ليست جديدةً على المجتمع اللبنانيّ، وإنّ أسبابها تتفاوت بين اليأس من الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ، إلى الكثير من الدوافع الشخصيّة والذاتيّة، بل إنّ المقارنة بين الإحصائيات حول عدد ​حالات​ الانتحار بين هذا العام والذي سبقه لا تدلّ، لغاية تاريخه، على فجوةٍ كبيرة، بحسب ما يؤكد عددٌ من الباحثين في هذا المضمار.

رغم ذلك، حين تمتزج حالات الانتحار مع الواقع المأساوي الذي يرزح خلفه ​اللبنانيون​ هذه الأيام، فإنّ ثمّة جرس إنذار يجب أن يُقرَع، باعتبار أنّ هناك الكثير من المؤشّرات المقلقة على "المجهول" الذي يمضي اللبنانيون باتجاهه بثبات، وهي مؤشّراتٌ سابقة لحالات الانتحار التي سُجّلت في عطلة نهاية الأسبوع، وإن كانت مرتبطة بها ارتباطاً مباشراً، أقلّه وفقاً للرسائل التي تركها المنتحرون خلفهم، وتلتقي على عنوانٍ واحدٍ: "الجوع كافر".

من هذه المؤشّرات الغلاء الفاحش والذي لا يتوقّف عن التصاعد يوماً بعد يوم، ربطاً بالارتفاع الجنوني وغير المبرَّر في الكثير من الأحيان لسعر صرف ​الدولار​ أمام ​الليرة اللبنانية​، حتى تحوّل شراء اللحمة على سبيل المثال إلى حلمٍ بعيد المنال للكثير من اللبنانيين، ممّن استعاض بعضهم عن ذلك بالتقاط صور "السلفي" مع اللحمة لعلّها تغني من جوع، في حين وصل "التقشّف" إلى داخل ​المؤسسة العسكرية​، مع حرمان العسكريين من اللحمة في وجباتهم أثناء الخدمة، وهو قرارٌ لا يُعتقَد أنّ له سوابق حتى في عزّ أيام الحرب.

وتتضاعف المأساة أكثر حين يتزامن هذا الغلاء مع ارتفاعٍ قياسيّ أيضاً في معدّلات ​البطالة​، والصرف من العمل، توازياً مع خفض رواتب من "صمدوا"، التي تآكلت أصلاً وفقدت كلّ قيمتها، وباتت تساوي عملياً الحدّ الأدنى للأجور في دولٍ أخرى. ولعلّ الأمرّ من ذلك يتمثّل في الأنباء المتكرّرة عن إقفال المزيد من المؤسّسات، وسط توقعات بعدم صمود أكثر من ربعها، أو ثلثها في أحسن الأحوال، حتى نهاية العام، علماً أنّ "المأساة" الحقيقية تشمل حتى من اعتقدوا أنّهم حفظوا آخرتهم، عندما جنوا أموالاً وأودعوها في ​المصارف​، فإذا بها تتحوّل إلى "مجرد أرقام" باعتراف رئيس حكومتهم، وهم غير قادرين على التصرّف بها، وإذا أرادوا سحبها، يخسرون ببساطة معظم قيمتها.

أين المواجهة؟!

إزاء كلّ هذه المأساة الآخذة في التفاقم يوماً بعد آخر، يصبح التساؤل مشروعاً عمّا تفعله ​السلطة​ للمواجهة، ولحفظ حقوق المواطنين بالعيش الكريم بالحدّ الأدنى، في وقتٍ تكتفي ​الحكومة​، أقلّه وفق ما هو ظاهر، بالتنظير وتقديم الوعود، في حين تولي كلّ أولويتها للشكوى من "مؤامرات كونيّة" تتعرّض لها، مع أنّ "المؤامرة" الكبرى تبقى تلك التي يواجهها اللبنانيون أنفسهم، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وسياسياً.

لكلّ هذه الأسباب، لا يعود اتهام الحكومة بـ "التواطؤ" في هذه المأساة من عدم أو من فراغ، ولو كان صحيحاً أنّ هذه الحكومة لا تتحمّل عملياً المسؤولية الكاملة، هي التي ورثت "حملاً ثقيلاً" من سياساتٍ اقتصادية أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، يقف خلفها معظم "رموز" الطبقة السياسية الحاليّة، في المعارضة قبل الموالاة، في حين تواجه اليوم قراراً دولياً يصفه عددٌ من الوزراء بـ "السياسيّ"، ويقضي بإقفال كلّ الأبواب أمامها، لمنعها من ​تحقيق​ أيّ إنجازٍ يمكن ​البناء​ عليه.

لكنّ كلّ ذلك لا ينفع عندما يشعر الناس، ولا سيما الفقراء منهم، وكأنّ هذه الحكومة تعيش في كوكبٍ آخر، فهي بدل الشروع في ورشة "الإصلاحات" الموعودة منذ ما قبل ولادتها، وبدل المضيّ في "الحرب على ​الفساد​" التي أعلنها رئيسها أكثر من مرّة، بما يؤدّي إلى استعادة ​الأموال المنهوبة​ وغيرها، لا "تبخل" باقتراحات الحلول على حساب الناس. هكذا، وجدت الحكومة الظرف مناسباً الأسبوع الماضي مثلاً لرفع سعر ربطة ​الخبز​، التي تحوّلت إلى طعام الفقراء شبه الوحيد، قافزةً فوق وعودها بالعكس، ربما تحت "ضغوط" الأفران، بذريعة ارتفاع ​سعر الدولار​، ما يفتح المجال أمام ارتفاعٍ إضافيّ في القادم من الأيام.

وبالتوازي، كان بعض الوزراء يخفّفون من وقع المشكلة، كما فعلت وزيرة الدفاع ​زينة عكر​، حين قالت إنّ 70 في المئة من الخدمات، لا سيما فواتير ​الكهرباء​ والماء و​الهاتف​، كما ​المحروقات​، ما زالت تُدفَع وفقاً لسعر الصرف الرسمي، علماً أنّ ثمّة في الحكومة من يقترح رفع الدعم عن هذه المنتجات أيضاً، ولو أقرنت هذا القول بـ"تفهّمها" للظروف الاقتصادية والاجتماعية، و"الشكوى" من إغلاق ​المجتمع الدولي​ بوجه الحكومة، وهي "شكوى" مُحِقّة ربما، لكنّها تفقد كلّ جوهرها حين تقترن بتكريس الحكومة لنهج سابقاتها في "​المحاصصة​" وغيرها، كما حصل في ​التعيينات​ والتشكيلات التي حطّت على الطاولة الوزارية حتى اليوم.

حرب من نوع آخر!

لا أحد بوارد الدفاع عن "الانتحار"، أو التشجيع عليه، بعيداً عن "الجدل" حول ما إذا كان من يُقدِم على مثل هذا العمل، "جباناً" اختار الهروب من أزماته، من دون أن يكترث بالتبعات على عائلته الصغرى قبل الكبرى، أو "فدائياً" يريد أن يشكّل انتحاره "شرارةً" لثورةٍ لا تزال حتى تاريخه تنطفئ قبل أن تولد، رغم أنّها تختزن كلّ المقوّمات المطلوبة.

لكن، أبعد من الخوض في مثل هذا "السجال"، يبقى الأكيد أنّ ثمّة مشكلة عميقة تهدّد لبنان، وتستوجب المعالجة، معالجة لم تعد تنفع معها "المسكّنات" ولا الحلول "الترقيعية" التي اعتاد عليها المسؤولون، ولم تعد تجدي معها ​سياسة​ "أردنا الإصلاح لكن لم يسمحوا لنا"، التي يبدو أنّ الحكومة الحالية وجدت فيها "ضالتها" بعد طول عناء.

المطلوب من الحكومة "المواجهة" فوراً ومن دون إبطاء، بدل "البكاء على الأطلال"، علماً أنّ أداءها لم يقدّم لغاية تاريخه "النموذج" الذي يحلو لبعض أعضائها الحديث عنه، وقد يكون خير دليلٍ على "القصور" أنّها ذهبت إلى المفاوضات مع ​صندوق النقد الدولي​ مثلاً من دون اتفاقٍ على أرقام الخسائر، ما جعلها "تنشر غسيلها" أمام العالم، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى تعليق المفاوضات بانتظار التوافق-المعجزة.

على الحكومة أن تواجه، عملاً لا قولاً، وإلا فعلى اللبنانيين أن يستعدّوا لحربٍ من نوعٍ آخر، قد تكون "مأساة" الانتحارات المتلاحقة أول غيثها، ليس إلا...