من المنطقي ان تأخذ دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي حول حياد لبنان هذا الجدل الواسع، وان تصبح محور النقاش السياسي الدائر. فالطرح صادر عن بكركي، التي غالباً ما اسّست لمراحل تاريخية كبرى، مثل اعلان لبنان الكبير والاستقلال، واخيراً وليس آخراً البيان التاريخي في العام 2000 حول انسحاب الجيش السوري من لبنان.

والسبب الأهم، هو الظرف والتوقيت لإعلان البطريرك موقفه، والذي يتزامن مع صراع سياسي كبير في المنطقة يطال ايران، وهو يشمل الساحة اللبنانية، حيث «حزب الله» ابرز حلفاء ايران على الاطلاق.

أضف الى ذلك، انّ ايران ومعها «حزب الله»، حققا انتصارات سياسية كبيرة على مستوى السلطة اللبنانية خلال المراحل الماضية، مع النجاح بإيصال العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وانتاج قانون انتخابات جديد، سمح بتحقيق اغلبية انتخابية موالية لـ«حزب الله»، ومن ثم انتاج حكومة برئاسة سعد الحريري، ولكن وفق موازين قوى لصالح «حزب الله» وحلفائه، قبل سقوطها ووصول حكومة حسان دياب الموالية بالكامل لـ«حزب الله».

وهو ما يعني انّ تفسير الحياد هنا، سحب السلطة السياسية من خانة النفوذ السياسي لـ«حزب الله» وايران الى خانة وسطية.

في الواقع، تدرّج البطريرك الراعي في عرض موقفه وصولاً الى تحديد ما يريده فعلاً. فهو تحدث عن انّ الحياد لا يشمل منطق العداء لاسرائيل، ولا القضايا العربية الاساسية، بل هو اقرب الى الحياد الايجابي بهدف الخروج من المحاور الاقليمية المتصارعة لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يمرّ به، وهو قد يكون في حديثه عن خمسينيات وستينيات القرن الماضي، اراد الاشارة الى سياسة الحياد الناجحة التي طبّقها الرئيس فؤاد شهاب في عهده، وانتجت استقراراً امنياً وسياسياً ورخاء اقتصادياً، وفي الوقت نفسه، التزاماً كاملاً بالعداء لاسرائيل. يومها تفاهم شهاب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ولكن من دون توريط الساحة اللبنانية في صراعات المحاور العربية.

رئيس الجمهورية الذي شعر بأنّه مستهدف من الطرح بسبب سياسته وتحالفاته المعروفة، وبعدما لمس تجاوباً شعبياً مسيحياً مع بكركي، سعى للالتفاف، من خلال اعادة طرح ملف الفساد مقروناً بأرقام مثيرة. لكن الخطوة لم تحقق النجاح المطلوب، كون الخلاصة حيال الفساد باتت نتائجها راسخة عند السواد الاعظم من اللبنانيين، اضافة الى انّ الملف السياسي بات متقدّماً أكثر.

كذلك، فإنّ رئيس الحكومة حسان دياب، والذي شعر بأنّه وحكومته مستهدفان، قصد الديمان بطائرة مروحية والتقى البطريرك للمرة الاولى منذ وصوله الى الرئاسة الثالثة، وحاول التصويب خلال اللقاء على اسرائيل، وعدم جواز الحياد في موضوع الصراع معها. وكرّر البطريرك مفهومه ومقصده من الحياد الايجابي الذي لا يشمل العداء لاسرائيل، بل يهدف الى إخراج لبنان من المحاور الاقليمية وفك الحصار عنه. لكن السؤال الاهم بقي حيال الموقف الحقيقي لـ»حزب الله»، خصوصاً انّه آثر البقاء خارج دائرة الردود، وطلب من رجال الدين المحسوبين عليه ومحازبيه عدم التعليق والتزام الصمت.

في الواقع، فإنّ خط التواصل الموجود بين «حزب الله» وبكركي لا يزال مفتوحاً، ولو انّه لم يسجّل حركة لافتة منذ اسابيع. هذا الخط الذي يتولاه المطران سمير مظلوم وابو سعيد الخنسا ومحمود قماطي، كان ينعقد بمعدل مرة كل شهر او شهرين كحدٍ اقصى.

وجاءت الزيارة اللافتة للسفير الايراني الى الديمان، لتعطي الانطباع بأن لا وجود نية لفتح باب الصدام السياسي او الاعلامي، لا بل قيل انّ نتائج الزيارة كانت ايجابية. وبخلاف الانطباع السائد، فإنّ صمت «حزب الله» قد يكون مردّه اولاً الى عدم رفع مستوى التوتير والسجالات الداخلية، وهو ما سيرتد مزيداً من السلبية على وضع حليفه الرئيس ميشال عون، اضافة الى انّه قد يكون وجد في طرح البطريرك محفزات داخلية اكثر بكثير من وجود خيوط خارجية. وقد يكون «حزب الله» لمس عدم وجود مشروع ناضج يجري التحضير او التأسيس له من خلال طرح البطريرك الراعي.

وبمعنى آخر، فهو قد يكون اعتبر انّ الطرح غير قابل للحياة، وانّه لن تحصل ملاقاة خارجية كبيرة له، وانّ المشروع لا يستوفي الشروط المطلوبة ليُطور لاحقاً ويرتقي الى مستوى القرار. وبالتالي، فإنّ ما هو حاصل هو استثمار في اللعبة السياسية الداخلية وشدّ الحبال القائم بين مختلف القوى السياسية الداخلية، اكثر منه تأسيس ركائز داخلية لمشروع كبير.

وخلال الايام المقبلة سيزور مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم الديمان بدعوة من البطريرك الراعي، وهو المعروف بعلاقاته الواسعة والوثيقة مع مختلف الاطراف الداخلية على تنوعها.

ربما «حزب الله» يريد التفرّغ اكثر للصراع الكبير الدائر في المنطقة، والذي يطاله مباشرة من خلال الضغوط القائمة، خصوصاً حيال طرح ترسيم الحدود الجنوبية، ايضاً ما هو مطروح حيال الحدود اللبنانية - السورية ومستجداتها مع بدء تطبيق «قانون قيصر». والتركيز هو اكبر حيال الصعوبات المعيشية وارتداداتها المؤلمة على المجتمعات اللبنانية، خصوصاً وانّ المعطيات تؤشر الى انّ المرحلة الاقتصادية الصعبة ستطول، والأهم انّ الهدنة الحالية قد تنتهي قريباً. وانّ السبب الاساس لهذه الهدنة، انّ الدولة اللبنانية كادت تسقط وتتفكّك، ما استوجب منح لبنان بعض «الاوكسيجين». فخطر توقف الكهرباء نهائياً وبالكامل كان داهماً، ما كان سيعني تفككاً سريعاً لمؤسسات الدولة المهترئة اساساً، والانزلاق الى منحى آخر هو الفوضى الشاملة وربما عودة قوى الامر الواقع.

لذلك سارعت العواصم الغربية المعنية الى خطة طوارئ، لا تلغي البرنامج الموضوع لزيادة تصاعدية ومتدرجة في الضغط، وصولاً الى مفاوضات وترتيب حجم جديد لـ«حزب الله» على قياس لبنان لا على قياس المنطقة، بل لإعادة ترتيب بعض نقاط الضعف الخطيرة التي قد تؤدي الى زوال مؤسسات الدولة. ومن هذه التدابير المساعدة الفرنسية المالية السريعة للمدارس الخاصة في لبنان، التي تتبنّى البرامج الفرنسية، ومساعدات اميركية لمدارس وجامعات تتبنّى البرامج الاميركية، وايضاً تشجيع حكومة العراق لتزويد لبنان بالفيول والنفط بأسعار تشجيعية مع تسهيلات بالدفع. لكن الاهم، ما باشرت به الامم المتحدة عبر المنظمات المرتبطة بها التحضير له في لبنان.

وقيل انّ برنامجاً لمساعدة العائلات اللبنانية المحتاجة جرى وضعه، لأنّ التوقعات هي بحصول تدهور اقتصادي اكبر في لبنان. وستتولّى هذه المنظمات غير الحكومية التواصل مع البلديات لوضع لائحة اسمية بالعائلات المحتاجة، كي تتلقى مساعدات شهرية. لكن الاشارة المقلقة، بأنّ هذا البرنامج وُضع ليُعمل به للسنوات الثلاث المقبلة، وهو ما يعني بأنّ الازمة الحاصلة متوقع لها ان تستمر لهذه المدة.

في العام 2011 ومع بدء الحرب في سوريا، زار مسؤول الهلال الاحمر الاماراتي لبنان، متحدثاً عن نزوح سوري سيتجاوز المليون نازح. يومها سخر المسؤولون اللبنانيون بالمبالغة بالتقديرات، فيما كان عدد النازحين يقارب الـ40 الفاً في حدّه الاقصى. لكن بعد سنتين تجاوز عدد النازحين رقم المليون ليصل الى مليون و700 الف.

ويومها ايضاً، وصلت بعثات لمنظمات تابعة للامم المتحدة، طلبت استئجار مخازن لوضع المساعدات التي ستأتي الى السوريين ولمدة 10 سنوات.

يومها ايضاً سخر اللبنانيون بما اعتبروها مبالغة في التقديرات، فيما نحن نصل اليوم الى السنة العاشرة. وبالتالي، فهل هذا يعني انّ لبنان سيرزح تحت كارثة اقتصادية لفترة طويلة؟ والاهم هل انّ بنيته المهترئة بسبب فساد الطبقة السياسية الحاكمة، قادرة على الصمود طوال هذه المدة؟