مباشرة بعد الكارثة التي خلّفها الانفجار الذي هزّ مدينة ​بيروت​، سارعت العديد من الدول إلى الإعلان عن رغبتها في تقديم ​مساعدات​ إلى ​لبنان​، في موقف يسجل لجميع من وجد أن البلاد منكوبة بحاجة إلى أي معونة لتجاوز المصيبة التي حلت بها، لكن في المقابل بعض القوى المحلية لم تر في الكارثة إلا وسيلة جديدة يمكن استغلالها في لعبة الصراعات السياسية الفارغة، التي كانت سبباً أساسياً في كل ما تعرض ويتعرّض له لبنان على مدى السنوات الماضية.

في هذا السياق، كان لافتاً سعي بعض الأفرقاء إلى ترجيح فرضية الاعتداء الإسرائيلي، رغم عدم استبعاد الموضوع، ليس من باب أن لتلّ أبيب نوايا عدائيّة دائمة تجاه بيروت، بل من باب تحميل "​حزب الله​" المسؤوليّة، على قاعدة أن الانفجار استهدف مخازن أسلحة للحزب، وبالتالي هو من يتحمّل مسؤوليّة ما حصل، وصولاً إلى المطالبة بلجنة ​تحقيق​ دوليّة وربما أيضاً محكمة دوليّة لاحقاً.

سيناريوهات استهداف الحزب لم تتوقف عند هذا الحد، بل شملت أيضاً الحديث عما حصل بأنّه مدبر بهدف التشويش على حكم ​المحكمة الدولية​ في جريمة اغتيال رئيس ​الحكومة​ الراحل ​رفيق الحريري​، بالرغم من أن الحزب كان، قبل ساعات من الانفجار، قد طلب من مؤيّديه عدم التعليق على هذا الحكم أو الدخول في أيّ سجال قد يؤدّي إلى توتير الأجواء، على قاعدة أنّ المطلوب الحفاظ على الاستقرار الداخلي وعدم الانجرار إلى أيّ فتنة.

في المقابل، كان هناك من يريد أن يحمّل الحكومات المتعاقبة المسؤوليّة قبل الانطلاق بأيّ تحقيق جديد، أو حتى حماية مسرح الجريمة من العبث، وكأن المطلوب أن تمرّ هذه الجريمة مرور الكرام، فهل هناك من يملك جواباً واضحاً عن الأسباب التي تحول دون توقيف جميع المسؤولين عن المرفأ احتياطياً حتى الآن، كي يشعر اللبنانيّون بأنّ هناك جدّية في التحقيقات التي تحصل للوصول إلى الحقيقة كاملة؟.

في الوقت الراهن، لا يمكن تحميل المسؤولية إلا لجهة واحدة، تشمل طبقة سيّاسية مسؤولة عن نظام يقوم على ​الفساد​ والإهمال، وهي من المفترض أن تُحاسَب في أقرب فرصة على كل جرائمها بحقّ ​الشعب اللبناني​، لكن المطلوب عملياً هو الإسراع في التحقيقات التي تقود إلى تحديد المسؤوليات الواضحة، بعيداً عن أي تعمية أو حماية قد يقدّمها البعض لبعض المشتبه بهم.

أخطر ما حصل، طوال ​الساعات​ الماضية، هو سعي بعض الجهّات إلى تسريب معلومات، هدفها الأساسي حماية أزلامها في بعض المواقع المعنيّة بهذه الكارثة، الأمر الذي من المفترض أن يتوقف فوراً، لأنّ المطلوب هو الحقيقة التي تمهّد إلى المحاسبة، لا "اللفلفة" على الطريقة اللبنانية عبر افتعال سجالات جانبيّة لا قيمة لها، خصوصاً أن هناك العشرات من الشهداء والاف الجرحى، بالإضافة إلى خسائر اقتصاديّة هائلة.

حتى الآن، ما يحصل هو عبارة عن وقاحة وطنيّة تجتاح ​وسائل الاعلام​، تتحمل مسؤوليّاتها معظم القوى السّياسية التي تسعى إلى استغلال الحادثة، فهل تتوقف عن ذلك احتراماً لمشاعر اللبنانيين، لا سيّما ذوي الضحايا، فلماذا تستمر في النهج نفسه بغية تحقيق أهدافها الخاصة بعيداً عن أي حسّ بالمسؤولية؟.

التجارب الماضية، لا تدفع إلى التفاؤل بصحوة ضمير لدى هؤلاء، لكن المطلوب من كل صاحب ضمير حيّ، حريص على مستقبل هذه البلاد وراغب في أن يراها تنهض من جديد، منعهم من تحقيق أهدافهم والإصرار على الوصول إلى النتائج، لأن أي مواطن كان من المحتمل أن يكون ضحية هذه الجريمة، وليس هناك ما يحول دون تكرارها إلا التحقيق الشفّاف والمحاسبة الصارمة.