عند كل استحقاق حكوميّ، تنكبّ الأحزاب ال​لبنان​ية بوقاحة ودون أي خجل وقبل أي استشارات نيابية وقبل أي تكليف، إلى توزيع الحصص والحقائب الوزارية، بما يتناسب والمكتسبات السياسية التي يفرضها الواقع السياسي الدولي والداخلي. وهل هناك وقاحةٌ أكثر من تلك التي نشهدها اليوم، بعد أيام قليلة من إنفجار المرفأ، فتراهم يبحثون عن حصصٍ ومغانم، تاركين وراءهم أشلاء الشهداء تحت أنقاض ​مرفأ بيروت​ اليتيمة.

إن ​تاريخ لبنان​ البعيد والقريب حافلٌ بالتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشرة والإسقاطات الطائفية والمذهبية على كافة السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وداخل كل مؤسسات ​الدولة​، والتي كانت تؤدي غالباً إلى إنقسامات عامودية وأفقية أهلكت الوطن والمواطن.

ولعل أخطر ما يعطّل التكليف والتأليف هو مصطلح "الديمقراطية التوافقية" الذي أُدخل على ​المؤسسات الدستورية​، وهو مصطلح ظاهره التوافق وباطنه التعطيل و​المحاصصة​، بنسبٍ تحددها الأكثرية الوهمية المسيطرة على ​المجلس النيابي​، فتصبح إذن هذه ​الحكومة​ عملياً برلماناً مصغراً عن المجلس النيابي، فتتعطل بذلك المحاسبة والمساءلة. كما أن مصطلح "وزارات سيادية" ساهم بدوره في التعطيل، ودخل مخرّباً آلية التشكيل، حتى أصبحت تلك الوزارات حكراً على طوائف و مذاهب معيّنة، وكان ذلك ‏آخر مسمارٍ في نعش استقلالية عمل الحكومة والوزراء.

فمنذ الاستقلال في العام ١٩٤٣ وحتى الحكومة الحالية المستقيلة، عرف لبنان ٧٦ حكومة، منها ١٩ حكومة بعد ​اتفاق الطائف​، ومن بين هذه الحكومات هناك ١١ حكومة أطلق عليها "تكنوقراط".

والحكومة "التكنوقراطية" هي شكل من أشكال الحكومات، يتم اختيار وزرائها استناداً إلى خبرتهم التقنيّة وخلفيتهم العلميّة والتي يعتمدون عليها في صنع قراراتهم. وعلى الطريقة اللبنانية، لا بدّ من ابتكارٍ جديد، فقد قام زعماء ​الطوائف​ والمذاهب باختراع ما يسمى "الحكومة التكنوسياسية"، بحيث تتألف من وزراء "تكنوقراط" إلى جانب عدد من الوزراء السياسيّين المرتهنين للأحزاب. تلك الأحزاب هي نفسها التي ستمنح لاحقاً ثقتها للحكومة التكنوسياسية.

وفي المقابل نرى تاريخياً أن كثيراً من الحكومات اللبنانية تشكّلت تحت عنوان "الوحدة الوطنية"، لكنها في الواقع كانت حكومات تجمع بداخلها غالبية الأحزاب المتناقضة والمتناحرة فيما بينها، لكنهم يتفقون على تقاسم مقدرات البلد من جهة وينفّذون الأجندات الخارجية من جهة أخرى. وبذلك تكون ​السلطة​ بجميع مكوناتها المتخاصمة، قد عطّلت أي معارضة فعليّة في مجتمع ديمقراطي، وقضت على كل أملٍ في بناء وطنٍ مستقلٍ ومزدهرٍ وآمن.

فمهما اختلفت التسميات، فإن النتيجة ستكون واحدة، حكومةُ ظلٍّ لسلطةٍ ترفض أيّ تغيير في منظومتها السياسية والاقتصادية والأمنية، فتراها تقمع أي انتفاضة في وجه ​الفساد​، وتعتدي على من يمسّ بمكتسباتها المادية والمعنوية التي خلّفتها "تنذكر وما تنعاد" الحرب الأهلية.