لم يجد أي مواطن في ​لبنان​ سبباً مُقنعاً كي يرفض الإهتمام الرئاسي الفرنسي به. لا يعني السكوت الشامل أن شخصيات، وقوى، ومكوّنات، لا تخشى فعلياً من التدخل الفرنسي في شؤون ​الدولة اللبنانية​. هناك من يكرّر الهمس عن خرق ​باريس​ للسيادة اللبنانية، من خلال تدخّلها في صياغة العناوين والتفاصيل السياسية في لبنان الآن، إلى حد تناقل عنوان قيل إنه ظهر على شاشة فرنسية: ماكرون رئيس لبنان.

رغم أن الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ رفع شعار الأخوّة الذي يجمع الفرنسيين باللبنانيين، لرسم أُطر المؤازرة الباريسية ل​بيروت​. يُعتبر هذا التوصيف قمّة النبل الإنساني، إستخدمه ماكرون كي لا يخدش شعور اللبنانيين الوطني. بالطبع، سيشكر كل اللبنانيين الرئيس الفرنسي على دوره الإيجابي. أولاً، في إندفاعه لجمع المكوّنات اللبنانية في ​حكومة​ فعّالة ومنتجة واصلاحية.

ثانياً، لأنه إعتمد سياسية العصا والجزرة تجاه السياسيين اللبنانيين، وفي الحالتين ستكون النتيجة مرضية للشعب اللبناني الذي يتوق الى ضبط ​الأزمة​ ومعالجة الأوجاع المعيشية والإقتصادية. ثالثاَ، لأن الفرنسيين فكّوا الحصار الدولي الذي كان قائماً بحق لبنان من خلال مقاطعته وعدم مؤازرته. رابعاً، بسبب الخطاب الماكروني الذي أبرز فيه موضوع ​النظام اللبناني​ الذي يحتاج الى عقد إجتماعي جديد قائم على أساس المدنية لا الطائفية. لكن هل تُعتبر الإندفاعة العاطفية المتبادلة بين الفرنسيين واللبنانيين عابرة؟.

لا يُمكن الجزم بمسار العواطف الجيّاشة التي يُظهرها "الأخوة" في البلدين. قد تترسّخ طويلاً بحجم الإنقاذ المرتقب خلال الأشهر المقبلة لإنتشال لبنان من بحر الأزمة الماليّة. وقد تُكرّر تجربة الإنتداب في تعاطي الفرنسيين مع لبنان، واللبنانيين مع ​فرنسا​. الفارق كبير بين ما حصل قبل مئة عام، وما يحصل حالياً. لم تعد فكرة الإنتداب صالحة ولا ممكنة: لا فرنسا ​الجمهورية​ الثالثة هي ذاتها. ولا لبنان الوليد الجديد هو نفسه. إضافة الى ان طبيعة ​العالم​، وخرائط الإقليم الجيوسياسية تغيّرت بشكل جوهري. لذا، يُمكن الجزم أن الموجة العاطفية مرتبطة فقط بالمخرج الذي تؤمنه فرنسا لوقف الأزمة اللبنانية. سيعود كل مكوّن سياسي داخلي إلى تموضعه وعلاقاته وتحالفاته وارتباطاته، وخصوصاً مع عواصم إقليمية ودولية. اذا كان الأميركيون ينسحبون من الإقليم، وهم شجعوا الفرنسيين على لعب دور في لبنان. بينما يحصر الروس اهتمامهم ب​سوريا​، فماذا عن العلاقات اللبنانية مع الإيرانيين والأتراك؟. ستبقى قائمة ومتبادلة مع مكوّنات ترتبط بالدولتين الإسلاميتين، بأبعادها السياسية والطائفية المذهبية. تعرف ​طهران​ وأنقره أن الإندفاع الفرنسي تجاه لبنان لا يُلغي دورهما في هذا البلد.

وحدهم العرب فقط، قادرون على منع ​تركيا​ من التمدد. لكنهم غائبون عن لبنان، وتحديداً ​الدول الخليجية​ التي ستكتشف أن مقعدها الفارغ في الجمهورية اللبنانية جلس عليه الأتراك، ولا مجال لإستعادة المقعد السليب. ربما تعتبر عواصم عربية انها تعاقب لبنان بالإبتعاد عنه، لكنها ستعرف بعد حين، أن أنقره إحتلّت دورها التاريخي في بلد لا يجوز الإستغناء عنه.

لا يُمكن للدول المركزية العربية الإعتماد فقط على الروابط التي تجمع ​الشعب اللبناني​ بأخوتهم العرب. تحاول مصر أن تقوم بجهود بنّاءة في لبنان لعدم السماح بالفراغ العربي. لكن اللبنانيين الذين يودّون المصريين، يتفرجون على عجز ​الجامعة العربية​ عن فعل شيء، وإبتعاد الخليجيين عن لبنان في وقت يتقرّب الأتراك منه.

تستغل أنقره غياب العرب لإستنهاض عوامل وجدانية وإسلامية، تجد لها صدى في ​طرابلس​ وصيدا. فهل غاب العرب نهائياً عن لبنان، كما غابوا عن أدوارهم الإيجابية في سوريا، واكتشفوا الخسائر بعد فوات الآوان؟.