لم يشهد ​لبنان​ حالاً من الفوضى المتعددة المحاور والمجالات كما هو حاله اليوم. فالفوضى قائمة في ​السياسة​ عبر الخروج عن الدستور والميثاق والأعراف الدستورية، والفوضى قائمة في النقد و​الاقتصاد​ عبر تقلب الأسعار التي لا قاعدة ولا سلطة تضبطها، كما وعبر قيمة النقد الوطني الذي لم يعرف يوماً في ​تاريخ لبنان​ وضعاً يشبهه حيث ​الليرة​ بالنسبة للدولار أربعة أو خمسة أسعار، والفوضى قائمة في المجال المعيشي الى حد يكاد يلامس فقدان السيطرة، أما فوضى الإدارة و​القضاء​ فحدّث ولا حرج، وقد يكون القطاع العسكري والأمني الوحيد تقريباً الذي ما زال ممسكاً بأموره ومهمّاته يحصّنها ويمارسها بعيداً عن الفوضى التي يُراد له أن يدخل فيها.

هذا في الإجمال أما في التفاصيل والتي نبدأها بالأهم أي بالفوضى الدستورية والسياسية، فإنّ مدخلها قائم في الخلط من حيث قوة الإلزام بين النص والميثاق والعرف، ثم تقدّم من ينبري من غير علم او اختصاص لتفسير نص دستوريّ أو تقييم ميثاق وطني او طرح عرف سياسي. وبالمناسبة نقول إن النص الدستوري هو ما ورد حرفياً بكلمات تضمّنتها مخطوطة الدستور التي أقرها ​مجلس النواب​ وأصدرها ​رئيس الجمهورية​، ولهذا النص القوة الإلزامية المطلقة التي تجعل من الخروج عليه خرقاً للدستور يعاقب عليه جزائياً وجنائياً وسياسياً، أما الميثاق فهو ما توافق عليه ممثلو المكوّنات الوطنية وأبدوا إرادة صريحة واضحة بالقبول به والعمل بمقتضاه، وللميثاق قوة إلزام تلي قوة النص مباشرة لكن الخروج عنه لا يرتب المسؤولية الجزائية بل يثير المسؤولية السياسية. اما العرف فهو أدنى مرتبة من النص والميثاق، وتشكله يمرّ عبر مراحل يبدأ بالممارسة لأول مرة ثم يتكرّر ويسكت عنه ثم يصبح عادة ويقبل به ثم ينقلب الى عرف عندما يتحوّل في ذهن الجميع الى قاعدة يسلّمون بأنها باتت ملزمة. والعرف لا يعدّل الميثاق والميثاق لا يعدّل النص.

ومن الأمثلة التطبيقيّة على الفوضى التي تنهش لبنان اليوم ما هو قائم لجهة العمل بنص المادة 95 من الدستور حيت تنص على كيفية تولي الوزارة وتولي الوظائف العامة من الفئة الأولى. وهي واضحة في أمرين: الأول فرض المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في وظائف الوزارة والفئة الأولى، والثاني عدم تخصيص وزارة او وظيفة ​الطائف​ة معينة بشكل ثابت ونهائي، لكنه في الميثاق وزعت الرئاسات الثلاث على ​الطوائف​ الكبرى، وبالتالي يعتبر هذا التوزيع مخالفاً للدستور، وفي العرف ثبتت وظائف من الفئة الأولى لا بل من الثانية والثالثة والرابعة أحياناً ثبتت لطوائف وباتت لا تمسّ تحت طائلة الانفجار الوطني المدمّر وهو مخالف للدستور أيضاً.

فالعمل بالدستور والأخذ به يجب ان يخضع للقواعد ووحدة المعيار التطبيقي، فأما ان نلتزم بقوة النص الإلزامية كما هي القواعد العامة ولا يكون للميثاق أو للعرف دور في التعديل او نعدّله كما استقام التطبيق في عرف أو ميثاق ومن شاء تعديل النص فليذهب الى الآلية الدستورية ويستحصل على النص الذي يرغب به ان استطاع، وان لم يستطع فلينحني امام النص ويعمل به كما هو قائم. اما الانتقائية او تعدد المعايير فهي خرق لمبدأ المساواة وإخلال بالانتظام العام.

واذا شئنا ان نجري تصنيفاً للمراكز والوظائف العامة نجد أن تولي جميع المراكز الأساسية في ​الدولة​ من دون استثناء من سياسية وإدارية وقضائية وعسكرية وامنية خاضع لميثاق او عرف ومخالف للنص لجهة رفض تخصيص أيّ منصب ل​طائفة​، وعلى سبيل المثال نذكر بوظائف عدة فقط لأن اللائحة تطول لو شئنا تعداداً حصرياً نذكر بان للموارنة ​قيادة الجيش​ وحاكمية ​مصرف لبنان​ ورئاسة ​مجلس القضاء الأعلى​ وللسنة المديرية العامة للأمن الداخلي و​مجلس الخدمة المدنية​ و​مجلس الإنماء والإعمار​ وللشيعة ​الأمن العام​ و​الجامعة اللبنانية​ و​الضمان الاجتماعي​ إلخ.

اما في ما خصّ ​وزارة المالية​ المتنازع عليها اليوم فقد جرى في ​مؤتمر​ الطائف كما تسرّب من أروقته او محاضر ​النقاش​، ان المؤتمرين انقسموا في البدء حول تخصيصها للشيعة الذين طالبوا بها ليكون لهم توقيع يؤكد شراكتهم في ​السلطة​ التنفيذية خاصة المراسيم التي لا تستوجب قراراً من ​مجلس الوزراء​ وتفرض إنفاقاً مالياً، وكان الطرح بخلفية وضع حدّ للثنائية المارونية السنية التي حكمت لبنان في ظلّ ​المارونية السياسية​ منذ إنشاء لبنان واستقلاله. وكانت مطالبة ​الشيعة​ بوزارة المالية اذن بخلفية المشاركة في السلطة وليس بخلفية الحصول على حقيبة سيادية كما يقولون، وبالتالي إنّ تصنيفها لا يخضع لعنوان الوظائف والوزارات بمقدار ما يخضع لعنوان السلطات الدستورية، خاصة التنفيذية، وقد أخذ مؤتمر الطائف بهذا المنطق والتصنيف وأقرّ الموقع للشيعة، وبالتالي تشكل ميثاق لم يرتق الى مستوى النص بل اكتفي به شفهياً توافقياً كما هو حال الرئاسات الثلاث وعمل به مباشرة في الحكومات الثلاث الأولى بعد الطائف.

ولا ننكر بانّ هذا التوافق يصطدم بصريح النص الوارد في المادة 95 من الدستور، ويجعل الوضع مطابقاً للمخالفات الواقعة على الدستور عامة في تطبيق المادة 95 على الرئاسات والوظائف كلها، ما يجعل الحلّ السليم هنا واحداً من أمرين: اما أن يعمل بالنص كلياً وهنا لا يبقى لطائفة مركز أو موقع تتشبّث به وتعتبره ملكاً لها. وهذا هو الحلّ الوطني او نجعل العرف والميثاق فوق النص الصريح خلافاً للقواعد العامة ونبقي الأمر على حاله في كلّ المواقع وتكون وزارة المالية منها ويعمل بالميثاق حولها.

مع التذكير بأنّ تخصيص المالية للشيعة عمل ميثاقي لا يمكن إلغاؤه الا بإرادة الجميع، فكما تشكل الميثاق بإرادة جماعية فإنه لا يلغى إلا بالإجماع ذاته، الأمر غير المتحقق في هذا الإطار، أما القول بأنّ أحد ممثلي الشيعة تنازل عنها لمدة من الزمن فإنّ هذا التنازل لا يلزم الآخرين طالما أنهم لم يفوّضوه بالأمر ثم انّ التنازل كان يومها مقابل إقامة ثلاثية حاكمة تضمن مشاركة الشيعة في السلطة التنفيذية وهي ثلاثية مخالفة للدستور أيضاً (ترويكا عهد الهراوي بضمانة سورية)، وهي الثلاثية التي سقطت بعد تغيّر الظروف.

وعليه نرى انّ حسم الفوضى السياسية الدستورية هو المدخل لإقامة ​الحكومة​ التي تمارس السلطة الفعلية والتي بإمكانها ان تحسم الفوضى في الشؤون الأخرى، اما زيادة الفوضى وتعقيدها ببدع وأعراف جديدة فإنّ من شأنها تسعير الخلافات وتعطيل السلطة، ولهذا ترفض هنا كلّ محاولات فرض أعراف جديدة على تكوين السلطة و​تشكيل الحكومة​ أعراف أقلّ ما يُقال فيها إنها السمّ الذي يراد للبنان ان يتجرّعه.

فكفى تطاولاً على الدستور وعلى صلاحيات هذه او تلك من ​المؤسسات الدستورية​ وحقوق هذا او ذاك من المكونات الوطنية السياسية او محاولات الاستئثار الحصري بالسلطة. نقول هذا رغم علمنا بان اجتثاث الفوضى السياسية والدستورية بشكل حاسم ونهائي لا يمكن أن ينجز الا من خلال مؤتمر وطني يفضي الى توافق يؤدي الى ترشيق النظام وتثبيت الأحكام في دستور يستغني عن الأعراف والمواثيق ليكون نظام المواطنة والمواطن ويسقط نظام الطائفة والطائفية، وحتى ذاك الحين يجب ان تعتمد وحدة المعايير في تطبيق النصوص وتخطيها عرفاً أو ميثاقاً.