حصيلة الاستشارات غير الملزمة التي أجراها الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة سعد الحريري يمكن تلخيصها بالقول، إما نكون أمام ولادة سريعة لحكومة توافق (مساكنة) تجمع الأغلبية والأقلية البرلمانية، تحت عنوان اختصاصيين، تفاوض صندوق النقد الدولي لكن بشروط لبنانية، أو لن تولد حكومة في الوقت الحاضر، لأنّ الأغلبية لن تسمح للحريري بتشكيل حكومة اختصاصيّين يسمّي هو وزراءها.. وبالتالي سندخل في مرحلة الانتظار، ريثما تتضح نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة والسياسة المقبلة للإدارة الأميركية.

أيّ الخيار هو المرجح؟

في هذا السياق يمكن القول، هناك عوامل ترجح تأليف حكومة مساكنة، وهناك عوامل مقابلة لا تصبّ في مصلحة تشكيل مثل هذه الحكومة، وتعزّز استمرار الضغط الأميركي عبر الرئيس الحريري وتوظيف الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية لأجل فرض حكومة اختصاصيين مستقلين يسمّيها الحريري من دون مشاركة حزب الله وحلفائه، وتعطى فرصة ستة أشهر لتحقيق الإصلاحات التي وردت في المبادرة الفرنسية وإنجاز التفاوض مع صندوق النقد… وهو ما طالب به الحريري في بيان ترشحه لتشكيل الحكومة… وذلك بهدف تمرير الموافقة على شروط الصندوق من دون اعتراض أو تحفظ على أيّ من هذه الشروط، لقاء الحصول على قرض منه، وقروض من مؤتمر «سيدر» للدول المانحة، تنعش نهج الرأسمالية الريعية التي انتهجتها الحريرية وأدت إلى إغراق لبنان بالديون والفوائد المرهقة والأزمات وإفقار اللبنانيين وانهيار الطبقة الوسطى بعد الانهيار الاقتصادي والتدهور في قيمة الليرة مقابل الدولار، واستطراداً تراجع القدرة الشرائية لكافة الشرائح من الطبقات الوسطى والصغرى والفقيرة…

أولاً، العوامل التي ترجح حكومة توافق (مساكنة)… بين الفريق الوطني والفريق الموالي للغرب.

1 ـ الأجواء الإيجابية التي عكستها مواقف الكتل النيابية خلال الاستشارات والتي أوحت بأنّ الرئيس الحريري لم يعد متمسكاً برفض تسمية الكتل لوزرائها في حكومة الاختصاصيين التي يعتزم تشكيلها.. وهي المعضلة التي حالت دون تمكن السفير مصطفى أديب من تأليف حكومته لأنه رفض مشاركة أحد في تسمية الوزراء.. وكانت سبباً في اعتذاره..

2 ـ ميزان القوى في البرلمان، الذي يدعم حكومة توافق (مساكنة)، ويرفض تفرّد الحريري بتشكيل الحكومة وتسلم السلطة منفرداً، فحتى الكتل التي سمّت الحريري تريد أن تسمّي وزراءها في الحكومة، مثل كتلة التنمية والتحرير، وكتلة اللقاء الديمقراطي…

3 ـ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لن يقبل بتأليف حكومة ليس له دور فيها من ناحية، وتنال موافقة الكتل النيابية وتنسجم مع الدستور، من ناحية ثانية.

4 ـ رفض كتل أساسية، مثل كتلة الوفاء للمقاومة تشكيل حكومة لا تعكس تمثيل الواقع البرلماني ويشارك فيها الجميع بتحمّل مسؤولية مواجهة الأزمة وإجراء الإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد وفق شروط وضوابط وطنية أهمّها، رفض رفع الضرائب غير المباشرة، ورفض بيع ممتلكات الدولة، وتحرير سعر صرف الليرة…

5 ـ الضوء الأخضر الذي سمح للحريري أميركيا وفرنسا للترشح لتشكيل الحكومة الجديدة، بعد أن كان القرار الأميركي وراء دفع الرئيس الحريري للاستقالة في أعقاب تفجّر الاحتجاجات الشعبية العفوية في 17 تشرين الأول من عام 2019… هناك اعتقاد بأنّ هذا الضوء الأخضر للحريري، ما كان ليحصل لولا شعور الإدارة الأميركية بأنّ خطتها الانقلابية، عبر استغلال الاحتجاجات والحصار المالي وتسعير الأزمة في البلاد، قد فشلت في تحقيق هدفها بفرض حكومة اختصاصيين يكون هواها أميركياً.. وأنّ هذه النتيجة هي التي دفعت واشنطن إلى القبول بما كانت ترفضه لناحية شروط التفاوض غير المباشر بشأن تحديد الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة والتي أصرّ عليها الرئيس نبيه بري على مدى عشر سنوات من المفاوضات مع المسؤولين الأميركيين… وبالتالي فإنّ واشنطن أصبحت مستعدة للعودة الى الموافقة على تشكيل حكومة توافق، على غرار حكومة الكاظمي في العراق.. لأنّ للكيان الصهيوني مصلحة في تسريع إنجاز اتفاق تحديد الحدود للبدء في عمليات استخراج الغاز في المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة المحاذية للمياه اللبنانية، وهو اتفاق إذا تمّ التوصل إليه، لا يمكن أن يخرج إلى النور إلا إذا حظي بموافقة ومصادقة الحكومة اللبنانية، إلى جانب موافقة رئيس الجمهورية.

ثانياً، العوامل التي ترجح عدم تشكيل حكومة توافق أو مساكنة، وبالتالي استمرار أزمة التشكيل في الوقت الراهن…

1 ـ الرهان الأميركي على استثمار الأزمة المتفاقمة في لبنان، والتهديد برفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية نهاية العام، لتمكين الحريري من فرض حكومة اختصاصيين يتفرّد هو في تسمية وزرائها، لتقوم بمهمة تنفيذ الإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد، والإتيان سريعاً بالقروض المالية التي يراهن عليها لوقف الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي.. وما يدعم هذا التوجه، الاستخدام الحاصل لسعر صرف الدولار من قبل المؤسسات المالية، بطريقة تهدف للقول إنّ الهبوط في سعر صرف الدولار وتحسّن قيمة الليرة اللبنانية مردّه إلى الثقة المتأتية من خلال ترشيح ومن ثم تسمية الرئيس الحريري لتأليف الحكومة، وأنه في حال مكّن الحريري من تشكيل حكومته بشروطه، فإنّ ذلك سيؤدي إلى مزيد من تحسّن سعر الليرة، والإسراع بموافقة صندوق النقد والدول المانحة على البدء بمنح لبنان القروض التي هو بأمسّ الحاجة إليها…

2 ـ حاجة واشنطن وتل أبيب إلى مواصلة استخدام سلاح الحصار المالي والضغط الاقتصادي وتوظيف ذلك لإجبار لبنان على تليين مواقفه في المفاوضات غير المباشرة لتحديد الحدود البحرية بما يحقق الأطماع الصهيونية.

3 ـ حاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى دعم الكيان الصهيوني واستطراداً اللوبيات الإسرائيلية الأميركية الداعمة لـ «إسرائيل» في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في بدايات الشهر المقبل… وهذه الحاجة تجعل ترامب يلبّي أيّ مطلب «إسرائيلي»، بل يتماهي بالكامل مع كلّ ما تريده حكومة بنيامين نتنياهو، وأكثر من ذلك، العمل على توظيف كلّ نفوذ أميركا وقوتها لإجبار بعض الحكومات العربية على توقيع اتفاقيات صلح واعترف بكيان العدو الصهيوني والقفز فوق الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني…

الأيام المقبلة هي التي ستحدّد أيّ الاحتمالين هو الذي سيحصل، ولهذا علينا مراقبة خطوات ومواقف الرئيس الحريري، الذي لم يرشح عنه، بعد الاستشارات، ولقائه مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ما يشي بأنه قبل أن تسمّي الكتل النيابية وزراءها من الاختصاصيين… أو أنه لا يزال مُصراً على ما كان قد أعلنه سابقاً بأنه يريد حكومة اختصاصيين يختار هو وزراءها لوحده… فإذا قبل الحريري ووافق على الشراكة في تسمية الوزراء فإننا سنكون أمام تشكيل سريع للحكومة لا ينتظر نتائج الانتخابات الأميركية، اما إذا أصرّ الحريري على رفض مشاركة الكتل في التسمية فإنّ عملية التشكيل ستنتظر طويلاً إلى ما بعد الانتخابات الأميركية واتضاح الصورة.. لأنّ الأكثرية النيابية إذا ما وافقت على إعطاء الحريري، ما كانت قد رفضت منحه لمصطفى أديب، فإنها تكون قد سلمت السلطة للحريري وأعطته شيكاً على بياض، ومكّنت واشنطن من تحقيق ما تصبو إليه من انقلاب سياسي لتمرير الموافقة على شروط صندوق النقد ومحاولة الحصول على تنازلات في مفاوضات تحديد الحدود البحرية… وهو ما لا يمكن أن يقبل به التحالف الوطني الذي رفض ذلك منذ اليوم الأول لاستقالة الحريري الخضوع للضغط الأميركي… وأكد في أعقابه أمين عام حزب سماحة السيد حسن نصرالله، بأننا لن نركع ولن نستسلم أمام التهديد والضغط والحصار الأميركي وقال :

إنّ «أميركا لا تفتش في لبنان إلا على مصالح إسرائيل وأمن إسرائيل والحدود البرية والبحرية للكيان ومستقبله»، و «الأميركيون لا يبحثون عن سيادة ومصلحة لبنان ولا يعملون محبة بالشعب اللبناني، وهم يبحثون فقط عن المصالح الإسرائيلية»، وأكد «المراهنون على جوعنا نقول لهم لن نجوع ولن نسمح أن يجوع لبنان»، و»لن نسلم للأميركيين ولن نخضع لكم تحت ضغط التجويع…»