خلافاً للتوقّعات، نأى "حزب الله" بنفسه عن تسمية رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ في ​الاستشارات النيابية​ الملزمة، بخلاف ما فعله مع كلّ من حسّان دياب و​مصطفى أديب​، اللذين أغدق عليهما بأصوات كتلته النيابيّة، ولو أنّه حرص على "الامتناع" عن تسمية أحدٍ في مواجهة "الشيخ سعد".

لكن، بالتوازي مع موقف "حزب الله" الممتنع، بدت "مباركته" للتسمية واضحة، ولو من خلف الكواليس، خصوصاً من خلال أصوات "الحلفاء" التي تأمّنت في اللحظة الأخيرة، بوساطاتٍ "مستترة"، ورفعت رصيد الرجل إلى ما يفوق نصف عدد النواب، بعدما كان البعض "يمنّي النفس" بنسبةٍ "هزيلة" من شأنها "إحراج" الرجل.

إزاء ذلك، ثمّة من يطرح علامات استفهام جدية عن الموقف الحقيقيّ لـ "حزب الله" من تسمية الحريري، فإذا كان إيجابيّاً، وفق ما هو ظاهر، لماذا لم يسمّه تلقائياً، وهو الذي يقول إنّ "الأصيل أفضل من الوكيل"، وإذا لم يكن كذلك، فأيّ "تحفّظاتٍ" لدى الحزب على الرجل، وهل تنعكس على مسار التأليف الذي يبقى ضبابيّاً حتى إشعارٍ آخر؟!.

"المرشّح الأفضل"!

لا يبدو مُبالَغاً به القول إنّ الحريري كان ولا يزال، وربما سيبقى، "المرشح الأفضل" لـ"حزب الله"، شأنه شأن رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، لرئاسة الحكومة، رغم كلّ التحفّظات والملاحظات، ورغم حجبه أصوات كتلته النيابية عنه في الاستشارات النيابية الأخيرة.

فمنذ ​استقالة الحريري​ من الحكومة قبل عام، على وقع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في لبنان، في موقف "أحاديّ" لم ينسّقه مع "حزب الله" أو غيره، لم يُخفِ الأخير يوماً رغبته بإعادة "الشيخ سعد" إلى السراي الحكوميّ، أو من يسمّيه بنفسه في حال أصرّ على موقفه بالابتعاد، وقد عمل "الحزب" يومها على تهيئة كلّ الظروف المساعدة للحريري للبقاء في موقعه.

ولم تتبدّد هذه "الإيجابية" حتى يوم عمد "الحزب" إلى تسمية حسّان دياب رئيساً للحكومة، فهو لم يخطُ هذه الخطّوة إلا بعدما سُدّت كلّ الأبواب أمام الحريري للعودة، وأعلن بنفسه انسحابه المُطلَق من السباق، وبعدما "استشعر"، ولو بصورةٍ خاطئة، أنّ دياب لن يشكّل "استفزازاً" للحريري، وبالتالي أنّ الأخير لن يمانع تسميته، ولن يكون معارضاً "شرساً" له، إن جاز التعبير، علماً أنّه لو أراد "المواجهة" لكان بإمكانه أن يأتي برئيس حكومةٍ محسوبٍ مباشرةً عليه، تنطبق عليه مواصفات "اللون الواحد"، فعلاً لا قولاً.

وتكرّس الأمر أكثر يوم سمّى "حزب الله" مصطفى أديب، بناءً لرغبة الحريري وسواه من رؤساء الحكومات السابقين، بعدما أوصل لهم رسالة واضحة مفادها أنّه ليس بوارد تكرار تجربة حسّان دياب، وأنّه يفضّل بقاء الأخير رئيساً لحكومة ​تصريف الأعمال​ إلى ما شاء الله، على أن يخوض "مغامرة" جديد غير محسوبة، علماً أنّ المحسوبين على "الحزب" لم يتردّدوا في إبلاغ الحريري مراراً أنّهم مع عودته شخصياً، بمُعزَل عن الشعارات "الحماسيّة" التي يخرج بها بعض الجمهور، أو من يصطلح على تسميتهم بـ"الجيش الافتراضي"، والتي باتت تناقض في معظم الأحيان توجّهات القيادة.

إيجابيّة... ولكن!

لم تنعكس هذه الإيجابية، التي يمكن وصفها بـ"المُطلَقة"، من جانب "حزب الله" إزاء الحريري، في الاستشارات النيابية الملزمة الأخيرة، فامتنع نواب "الحزب" عن تسمية الرجل، ما دفع كثيرين لاستبطان "رسائل مشفّرة" خلف الأمر، مفادها أنّ ما كان يسري سابقاً على العلاقة لم يعد كذلك اليوم، وأنّ لا "شيك على بياض" يُمنَح له، في الظرف الحاليّ.

يتحدّث العارفون في هذا السياق عن شقَّيْن جوهريَّيْن لا بدّ من التوقّف عندهما، يتصدّى الأول لكلّ التأويلات والتفسيرات والاستنتاجات غير الدقيقة ولا الواقعية، والتي تبقى من نسج خيال أصحابها، لا سيما لجهة القول إنّ عدم تسمية "الحزب" للحريري تعكس علاقة "متوترة" بين الجانبين، أو أنه ليس راضياً عن تكليفه في هذه المرحلة. ويذكّر هؤلاء بأنّ "الحزب" لم يعمد لتسمية الحريري أصلاً في أيّ استشاراتٍ سابقة، حتى يوم جاء رئيساً للحكومة بالإجماع في العام 2018، فإنّه لم يحصل على أصوات كتلة "الوفاء للمقاومة"، وذلك لاعتباراتٍ خاصّة لدى "الحزب"، لا يتردّد البعض بربطها بـ"حساسيّة" موقف الحريري، الذي قد يشكّل تصويت "حزب الله" لصالحه "إحراجاً" له مع بعض المرجعيّات، ولا سيّما الخليجيّة.

لكن، إذا تمّ تجاوز "اعتبارات" الحزب في عدم تسمية الحريري، فإنّ ذلك لا يعني وجود "تناغم كامل" بين الجانبيْن على خطّ الحكومة، باعتبار أنّ هناك العديد من النقاط التي لا تزال "عالقة" بينهما، منذ أيام إدارة الحريري للمفاوضات الحكومية "بالنيابة أو الأصالة" عن مصطفى أديب، وصولاً إلى بيان "تجرّع السّمّ" الشهير، الذي تضمّن العديد من "الثغرات" التي لم "تبلعها" قيادة الحزب، رغم الإيجابية الطاغية، وعلى رغم ما أثير عن "اتفاقٍ تام" سبق تكليف الحريري، تقول بعض الأوساط إنّه ليس دقيقاً بالمُطلَق.

وإلى هذا "الحذر"، معطوفاً على "التباين التام" بين الحريري و"حزب الله" في مقاربة الملفّ الاقتصادي، وبالتالي التعامل مع شروط صندوق النقد الدولي، ثمّة نقطة أساسيّة حكمت موقف "الحزب" أيضاً، وفقاً لبعض العارفين، وترتبط بمقتضيات "التضامن" مع "العهد"، خصوصاً في ضوء "الحساسيّة" التي أظهرها الأخير عشيّة تسمية الحريري، وصولاً إلى "النداء" غير التقليديّ ولا المسبوق الذي وجّهه رئيس الجمهورية ميشال عون إلى النواب، وكان من المنطقي أن يتفاعل معه الحزب إيجاباً، طالما أنّ التسمية "مضمونة"، من باب حماية "تفاهم مار مخايل" المهتزّ أصلاً على وقع مفاوضات ​ترسيم الحدود​، وتشكيلة الوفد اللبناني إليها.

تحديات واستراتيجيّات...

اعتباراتٌ كثيرة، بينها العام والخاص، تحكّمت إذاً بموقف "حزب الله" من تسمية الحريري لرئاسة الحكومة، ولو أنّ كلّ المُعطيات تؤكّد أنّ الحزب لا يزال مقتنعاً، وبناءً على كلّ التجارب السابقة، أنّ "الأصيل يبقى أفضل من الوكيل".

ولعلّ تجارب "الحزب" مع حكومات "اللون الواحد" هي التي فرضت عليه هذه القناعة، بعدما شعر أنّه "يمون" على الحريري أكثر ممّن "ينوبون" عنه، وينصبّ اهتمامهم على "استرضاء" شارعهم وبيئتهم، ولو عبر خوض "المواجهة" مع عرّابيهم.

لكن، رغم ذلك، ثمّة تحدّياتٌ بالجملة تنتظر العلاقة بين الحريري و"حزب الله"، تنطلق في جزءٍ منها من العلاقة مع الخليج، و"الوعود" التي قد يكون "الشيخ سعد" قطعها، في حال ثبتت فرضيّة "رفع الفيتو" المفروض عليها، وفي جزءٍ آخر من المقاربة الاقتصاديّة، التي تتباين حدّ التناقض، والتي عبّر عنها الحريري خير تعبير في حديثه التلفزيوني الأخير.

قد يكون من المبكر لأوانه الحكم على كلّ هذه الأمور، لكنّ الأكيد أنّ "حزب الله" بارك تسمية الحريري، ولو لم يسمّه، ولو أصرّت أوساطه على "التحفّظ" على كلّ ما يُثار في هذا الشأن، لاعتباراتٍ قد تكون "استراتيجيّة" بالدرجة الأولى!.