قاد الشكُّ العربي إلى اليقين: ​تركيا​ تتمدّد. لا بل أصبح رئيسها رجب طيب اردوغان قادراً على التحكّم بأي ساحة إقليمية. إنظروا إلى لبنان اليوم: تظاهرات إحتجاجية ضد الإساءة الفرنسية لنبي الإسلام محمد يحاول فيها المنظّرون للريادة التركية أن يوظّفوا النقمة على فرنسا من جهة، كي تصبّ في صالح شعبية اردوغان. إذا كان توقيتُ التحرك في عيد المولد النبوي الشريف، يأتي بعد تصرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شأن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، فإن التصدّر التركي في مواجهة باريس ساهم في ترسيخ دور أنقره في صفوف عدد كبير من مسلمي الإقليم: أين الدول العربية؟ هل باتت تلك الدول، خصوصاً الخليجية منها عاجزة أمام المد الأردوغاني؟.

إستطاع الأتراك أن يجذبوا شعوباً إسلامية بكل إتجاه، سواء في باكستان أو أفغانستان، إلى فرض نفوذ في شمال ​سوريا​، بينما يجري القضم تدريجياً في لبنان. لا يبدو أن أنقره تعتمد على مجموعات محدّدة، لا مسلّحة ولا متطرفة. بل أن الأتراك يُنعشون ذاكرة "الخلافة العثمانية" في نشاطات ثقافية ودينية وتوسيع خطوط التقارب مع كل المناطق الإسلامية السنّية في لبنان. أتى الإستعراض الاردوغاني في وجه ماكرون ليوسّع من مساحات الجذب التركية لشرائح اجتماعية في دول الإقليم وتحديداً في لبنان، في وقت كثُرت فيه زيارات شخصيات شمالية وصيداوية الى إسطنبول.

صار واضحاً أنّ أردوغان يرغب في تزعّم جبهة تنصبّه عملياً وريثاً للدولة العثمانية، مع مراعاة عاملين: الطورانية باطنياً، والحداثة علنيّاً. لم يعد هناك من موانع أمامه، بغياب أي منافس عن ساحات السباق. عندما تخلّى العرب عن دمشق أمام التمدّد التركي في شمال الجمهورية العربية السورية، صارت إدلب وضواحيها مساحة للنفوذ التركي. وعندما تفرّج الخليج على إنهيار لبنان من دون أي تدخل، ولو معنوي، يتمدد الأتراك على حساب الأدوار السعودية والمصرية والإماراتية. لكن مسلمي لبنان لا يستطيعون أن يخرجوا من عروبتهم. هم توّاقون لأدوار عربية بنّاءة إعتادوا عليها تاريخياً.

واذا كانت القاهرة تحاول ملء الفراغ العربي بنشاط مقبول لبنانياً، لكن ليس بإستطاعة جمهورية مصر العربية أن تُجابه وحدها تمدّداً تركياً. لو كان الدعم السعودي للبنان قائماً كما كان في العقود الماضية، هل كان بمقدور أردوغان إيجاد موطئ قدم في لبنان؟ من هنا تأتي حكومة ​سعد الحريري​ العتيدة في مهمة أساسها: وقف الإنهيار الإقتصادي ثم محاولة وضع البلد على سكة الحلول المالية.

سيحاول الحريري فرض مشاريع إنقاذية بدعم فرنسي، في وقت يشترط الأميركيون إنجاز ترسيم الحدود الجنوبية لدعم لبنان لاحقاً، بإنتظار أن يبدأ البلد في التنقيب عن الغاز في حقوله الحدودية. لكنّ الدعم العربي لحكومة الحريري يُصبح ضرورة العواصم العربية لمنع إستمرار زرع النفوذ التركي في أوساط المسلمين في لبنان: هل هناك من بدائل موثوق بها عند العرب لقيادة الحكومة اللبنانية؟ وهل إستفاد العرب من التخلّي عن هذا البلد الصغير؟.

اذا نجح أردوغان في ضم مسلمي لبنان الى صفّه، سيكونون في صف واحد الى جانب مؤيّديه في شمال سوريا و​العراق​ وباكستان وأفغانستان واذربيجان وكل دول القوقاز وصولا الى مسلمي روسيا والصين. لكن أهمية لبنان أنه ينطلق من موقعه في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يحاول الرئيس التركي التمدد على ضفتيه.

وكما حاولت أنقره مد اليد الى لبنان بعد كارثة إنفجار مرفأ بيروت، سيحاول الأتراك دعم الحكومة اللبنانية العتيدة. فهل يتفرّج العرب؟.