قبل أسابيع قليلة، لم تكن العلاقة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحرّ" في أفضل أحوالها، حتى أنّ كثيرين اعتقدوا أنّ "تفاهم مار مخايل" بين الجانبيْن بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعدما أنهى "مخدوميته" التي استمرّت زهاء 14 عاماً بالتمام والكمال.

لم يكن مثل هذا الاعتقاد نابعاً من الخيال، فالشواهد عليه كثيرة، من "المعركة" التي أحاطت بمفاوضات ترسيم الحدود، وتركيبة ​الوفد اللبناني​ّ إليها، وصولاً إلى "السجالات" الحكوميّة التي لا تنتهي، والتي تموْضَعَ فيها كلّ طرفٍ على الخطّ "النقيض" للآخر تقريباً.

شيئاً فشيئاً، بدأ الافتراق يترجَم في العَلَن، من خلال مواقف عالية السقف لقادة الصفّ الأول في الحزبيْن، وهو ما تجلّى في أحد المؤتمرات الدوريّة للوزير السابق ​جبران باسيل​، الذي "تبنّى" خطاب خصوم الحزب حول سوريا واليمن وغيرهما، ما دفع كثيرين لاتهامه بـ"مسايرة" الولايات المتحدة على حساب حليفه الأقرب والأمتَن.

كلّ ما سبق "تبخّر" في لحظةٍ واحدةٍ مع الإعلان عن ​العقوبات الأميركية​ على باسيل، إعلان بدا في مصلحة العلاقة الثنائيّة بين الجانبيْن، حتى أنّ محسوبين على "حزب الله" اندفعوا عفوياً، ومن باب الحماسة، لـ "شكر" ​الإدارة الأميركية​ على "الخدمة" غير المسبوقة!.

أصعب المراحل...

بعيداً عن الشعارات الإعلاميّة الرنّانة، يقول العارفون إنّ العلاقة بين "حزب الله" و"الوطني الحر" كانت تمرّ في الأسابيع الأخيرة،بواحدةٍ من أصعب مراحلها منذ التوقيع على "تفاهم مار مخايل" قبل 14 عاماً، لدرجة أنّ الكثير من "المحازبين" من الطرفيْن، كانوا يدفعون باتجاه "الانقلاب" على التفاهم، بعدما أدّى كلّ طرفٍ قسطه للعلى تجاه الآخر، حتى أنّ هناك من قال إنّ "الديْن" الذي سبق أن قال الأمين العام لـ "حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ إنه "مَدينٌ" ل​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ به، "حتى يوم القيامة"، قد سُدّ حتى الرمق الأخير، "ومع حبّة مسك".

ولعلّ "الاستحقاقات" التي واجهها الجانبان في الآونة الأخيرة، كلٌ من موقعه "المناهض" للآخر، دلّت بوضوح إلى وجود "تباينٍ" يكاد يكون "استراتيجيّاً" بينهما، بدءاً من "التفاوت" الكبير حول الملفّ الحكوميّ، سواء لجهة التعاطي مع حقيبة المال، التي كان باسيل "رأس الحربة" في رفض "تكريسها" للثنائيّ الشيعيّ، في مقابل "ليونة ملحوظة" أبداها خصوم "حزب الله"، أو لجهة مقاربة الملفّ الحكوميّ ككلّ، ودفع "الثنائي" نحو تكليف رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري، قافزاً فوق تحفّظات "التيار" وملاحظاته، وما كان يعتقد أنّه "فيتو" يتمتّع به.

وإذا كان البعض يعيد بدء "تردّي" العلاقة إلى مرحلة مجيء "العميل" ​عامر الفاخوري​ إلى بيروت ومن ثمّ عمليّة إطلاقه المريبة، والتي قيل إنّ باسيل لعب دوراً مع الأميركيّين على خطّها، فإنّ ملفّ ترسيم الحدود قد يكون "القشة التي قصمت ظهر البعير" بين الجانبيْن، إذ ثبّتت وجود "خلاف" نوعيّ، وغير شكليّ، بين الجانبيْن، وهو الذي تُرجِم في البيان شديد اللهجة الذي أصدرته قيادتا "حزب الله" و"أمل"، وتضمّن انتقاداتٍ مباشرة لرئيس الجمهورية، في "سابقةٍ" من نوعها، وذلك على خلفية الإصرار على تضمين الوفد اللبناني مدنيّين، وعدم اقتصاره على العسكريين، كما كان "الحزب" يطالب.

"شكراً ترامب"؟!

مع إعلان العقوبات على باسيل الأسبوع الماضي، بدا أنّ كلّ ما سبق "زال" عملياً، حتى أنّ بعض المقرّبين من "حزب الله" خرجوا، وعلى طريقة بعض الشعارات الرائجة لبنانياً من قبيل "شكراً قطر"، لرفع شعارٍ جديد هو "شكراً ترامب"، كبادرة شكرٍ للرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، لا تخلو من "الشماتة"، في إشارةٍ إلى نجاحه في مهمّةٍ عجز عنها أقوى الوسطاء، لجهة إعادة العلاقة بين "حزب الله" و"الوطني الحر" إلى سابق عهدها.

وقد جاء المؤتمر الصحافي للوزير باسيل، كما حديث السيد نصر الله قبل يوميْن، لتعزيز هذا "المنحى" الجديد، بشكلٍ لا يقبل "اللبس"، إذ كان واضحاً أنّ الرجليْن تجاوزا كلّ "الخلافات" السابقة، وقرّرا فتح "صفحة جديدة"، فباسيل كان واضحاً بالرسائل التي وجّهها إلى "حزب الله"، حول تفضيله خيار "الشراكة" معه على "عزله وإقصائه"، لا على طريقة "تربيح الجميلة"، ولكن من منطلق تحصيل "المكاسب السياسية المشروعة"، من باب العقوبات التي فُرِضت عليه بعد رفضه "الخضوع والخنوع".

ولعلّ "الترجمة" الأوضح لذلك برزت في الكلمة الأخيرة للأمين العام لـ "حزب الله" الذي بدا، من خلال تقديره "التضحية" التي قدّمها باسيل، كمن يسجّل "دَيْناً" جديداً في "رقبته"، وهو كان واضحاً بأنّ الموقف الذي اتخذه الأخير، سيكون ذات "مفاعيل سياسية"، وإن لم يحدّدها بوضوح. ومع أنّ البعض ذهب بعيداً لحدّ الاعتقاد بأنّ "حزب الله" قد يعمد لتبنّي ترشيح باسيل ل​رئاسة الجمهورية​ نتيجة هذا المُعطى، فإنّ هناك من استبعد مثل هذا "الاستنتاج" السابق لأوانه، معتبراً أنّ "المفاعيل" ستكون أسرع مدى، من خلال وقوف "الحزب" إلى جانب "التيار" في معركته الحكوميّة، ورفض أيّ استهدافٍ له، بعدما كان يعتمد منطق "​النأي بالنفس​" لأيامٍ خلت.

وإذا كان لافتاً في هذا الإطار أنّ نصر الله تعمّد أيضاً دعوة الجميع إلى "التضامن" مع باسيل، من بوابة أنّ "الاستهداف عام وقد يطال الجميع"، في كلامٍ فُسّر رفضاً لمنطق "الشماتة" الذي اعتمده بعض الحلفاء في الأيام الماضية، ثمّة من يشرح الأمر برمّته على أنّه "استشعارٌ" من "حزب الله" بأهمية موقف باسيل، خصوصاً أنّ حالته لا تشبه حالة معظم من عوقبوا قبله، سواء لجهة "الضجّة المفتعلة" التي أحيطت قبل وبعد فرض العقوبات عليه، أو لجهة "الحيثيّة" التي يمثّل، علماً أنّ قياديّين في "الحزب" يعتقدون أنّ باسيل كان يملك كلّ "الأسباب الموجبة" للانقلاب، لكنّه لم يفعل، وهذا يجب أن يُحسَب له، بمُعزَلٍ عمّا سُرّب عن "جاهزيّته" للتخلّي عن "حزب الله" مقابل شروطٍ معيّنة.

إلى التطوير دُرْ!

على لسان الوزير السابق باسيل كما السيد نصر الله، وردت عبارة لافتة بدلالاتها ومغازيها، ألا وهي "تطوير تفاهم مار مخايل"، وهي التي قد تشكّل العنوان الأبرز لمرحلة ما بعد العقوبات بين الطرفيْن.

ففيما يعتقد البعض أنّ العقوبات قد تفضي لنتيجة "معاكسة" تتمثّل بعودة باسيل إلى "أحضان" حليفه الأقرب، بعد "تباعد قسري"، ويرى البعض الآخر أنّ الوزير السابق قد يعمد لتوسيع "التباعد"، في مسعى لاستعادة "ثقة" واشنطن به، ثمّة من يتحدّث عن خيارٍ ثالثٍ يتمثّل بأخذ العلاقة إلى محطّة جديدة، بعنوان "التطوير".

ولعلّ "الزبدة" من "التطوير" تتمثل في أنّ التفاهم أصبح "محصَّناً" اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، والمطلوب العمل على "تطويره" بما يخدم الطرفيْن في السياسة، بشكلٍ أو بآخر، ولا يُحرِج أياً منهما، كما يقول العارفون، الذين لا يستبعدون انطلاق "ورشة" التطوير هذه في القادم من الأيام، لصوغ تفاهمٍ جديد، يساعد الأول على "الصمود والتعمير".

وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ التفاهم الذي كاد يسقط في "فخّ" العقوبات، يوم كان التلويح بها ساري المفعول، استعاد الحياة بعدما "أنعشته" العقوبات نفسها، بفِعل ما أحدثته من "تحرُّر" لدى باسيل، كما أعلن بنفسه، تاركاً خياراته للقادم من الأيام "مفتوحة"، وأكثر...