اكتسبت ​الولايات المتحدة​ الأميركية في لبنان "حنكة"، بحسب ما قالت سفيرتها في بيروت ​دوروثي شيا​، بعد أيام على تصريحٍ "حسّاس" لها، فُسّر "تلويحاً" بالتخلّي عن لبنان، حين كشفت أنّ ​واشنطن​ لم تبتعد، حتى الآن، عن لبنان، "كما فعلت ​دول الخليج​".

سريعاً، ألحقت شيا موقفها اللافت هذا بتصريحٍ آخر قالت فيه إنّ الولايات المتّحدة تدرك أنّ لبنان مُهِمّ، مشيرةً إلى أنّ "تحاشي فشل ​الدولة​ يجب أن تكون له الأولوية القصوى"، قبل أن تلمّح لدور على القادة اللبنانيين لعبه، إذ "لا يمكن أن نرغب في ذلك فعلاً أكثر من رغبتهم هم فيه".

قد يكون الموقفان المذكوران "متناقضيْن"، أو "متباينيْن" في الظاهر، مع اعتماد تكتيك "الترهيب" في الأول، و"الترغيب" في الثاني، إلا أنّهما قد يكونان "مكمّليْن" لبعضهما بعضاً، باعتبار أنّهما يصبّان في الخانة نفسها، ألا وهي "الضغط".

بهذا المعنى، فإنّ واشنطن تمارس "ضغطاً" على اللبنانيين، الحلفاء والأصدقاء منهم قبل الخصوم، لأن "لا شيء مجانياً بعد اليوم"، وفق تعبير شيا نفسها، فهل تنفّذ واشنطن "وعيدها" فعلاً؟ وأيّ تبعاتٍ يمكن أن تكون لذلك على الواقع العام؟!.

"عزلة دوليّة"!

في تصريحها المثير للجدل، "غمزت" شيا من قناة "العزلة" التي بدأ لبنان يعانيها دولياً، ولو "تعمّد" البعض إحاطتها بـ"الكتمان والسرية"، فدول الخليج التي تمارس "​النأي بالنفس​" إزاءه منذ بدايات "العهد"، انتقلت إلى مرحلةٍ متقدّمة عنوانها "الابتعاد الدبلوماسي"، وترجمتها بـ"سحب تكتيكيّ" للسفراء، شمل حتى الآن ​السعودية​ و​الإمارات​ والكويت.

ولعلّ "تحفّظات" دول الخليج على لبنان لم تعد خافية على أحد، وهي بخلاف ما يتمّ تصويره سابقة لـ"العهد"، وحتى لاستقالة رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ الشهيرة من الرياض، وتعود لما يصفه بعض حُكّام الخليج بـ"هيمنة ​حزب الله​ على الحكومة"، وقد وصلت إلى ذروتها عند إلغاء ما سُمّيت بـ"الهبة السعودية" التي كانت مقدَّمة للجيش اللبناني، تعبيراً عن "الغضب" من أداء الساسة اللبنانيين تجاه دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً.

وإذا كانت العلاقة بين لبنان ودول الخليج شهدت الكثير من "الصعود والهبوط"، قبل اتخاذ قرار "الابتعاد" غير المُعلَن أخيراً، فإنّ فرنسا تحوّلت إلى "الملاذ الأخير"، بعدما بقيت وحدها متمسّكة، رغم كلّ شيء، بمساعدة لبنان، من باب مبادرتها المترنّحة، التي وصفتها مراراً وتكراراً بـ"الفرصة الأخيرة"، والتي تقوم بدايةً على تشكيل حكومةٍ جديدةٍ تنفّذ الإصلاحات المطلوبة، والموعودة منذ ما قبل مؤتمر "سيدر" الشهير.

إلا أنّ هذه الفرصة أيضاً أصبحت في "خطر"، بعدما بدأ "صبر" الفرنسيّين ينفد بحسب ما تشير كلّ المعطيات، في ضوء فشل الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، وكلّ "الوكلاء" الذين أرسلهم نيابةً عنهم، من وزير الخارجية ​جان إيف لودريان​ إلى مستشاره باتريك دوريل، في "دفع" المسؤولين اللبنانيين إلى التجاوب مع مبادرته، من دون "شروط مسبقة". وخير دليلٍ على ذلك، ما يقوله جهاراً الكثير من الدبلوماسيّين، حول أنّ هذه الفرصة "طارت"، مثلها مثل المبادرة التي "ماتت" عمليّاً، حتى لو أنّ عرّابيها الفرنسيّين لن يعمدوا إلى "نعيها" بشكلٍ رسميّ في المدى المنظور...

"تشدّد أميركي"!

في مقابل "العزلة الدولية" الآخذة في التفاقم أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، وفي ضوء "المراوحة" التي تطبع أداء السياسيّين اللبنانيّين، المتمسّكين بما دأبوا عليه تقليدياً من "محاصصة" وما شابهها، يبدو أنّ "التشدّد الأميركي" آخذٌ بدوره في الازدياد، وهو ما دلّت عليه بوضوح التصريحات الأخيرة للسفيرة شيا، والتي خرجت في بعض جوانبها عمّا اعتادت عليه "الدبلوماسية الأميركية" لسنواتٍ خلت.

وقد تكون العقوبات الأميركيّة على الساسة اللبنانيين خير دليلٍ على هذه السياسة المستجدّة إزاء لبنان، بعدما وصلت إلى "ذروتها" مع استهداف رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، بعد "بروفا" شملت الوزيرين السابقين ​علي حسن خليل​ و​يوسف فنيانوس​، علماً أنّ المسؤولين الأميركيين لا يفوّتون مناسبة من دون أن "يبشّروا" بأنّ سيف العقوبات لن يُسحَب، وأنّ باسيل "لن يكون الأخير"، بل إنّ قائمة العقوبات قد تشهد "مفاجآت"، تشمل شخصيات من الفلك القريب من الولايات المتحدة، أو "غير المعادي لها" بالحدّ الأدنى.

ويأتي "التحذير" الأميركي من إمكان أن "تحذو" واشنطن "حذو" دول الخليج لجهة الابتعاد عن لبنان، في سياق سياسة "التشدّد أو الضغط" نفسها، علماً أنّ هناك من يتحدّث عن "سلّة شروط" يضعها الأميركيون لـ"تليين" موقفهم، وبالتالي موقف العديد من الدول القريبة منهم، تجاه لبنان، يتربّع على "عرشها" ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، لكن يشمل أيضاً قضايا أخرى، من بينها الاستراتيجية الدفاعية بحيث تضمن نزع سلاح "حزب الله"، ولا سيما الصواريخ الدقيقة التي يحملها، إضافة إلى ضبط المعابر بين لبنان وسوريا، ومراقبة المطار والمرفأ وغيرها.

ويحذر العارفون من أنّ "الرهان" على تغيير الإدارة الأميركية في القادم من الأيام، بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أفضت إلى استبدال الجمهوري ​دونالد ترامب​ بالديمقراطي جو بايدن، لن يفضي إلى تغييرٍ جوهري على خط السياسة الأميركية إزاء لبنان، ليس لأنّ السياسة الخارجية الأميركية ثابتة فحسب، ولكن قبل ذلك لأنّ الملفّات الخارجية، التي لا شكّ أنّ اللبناني متأخّر على خطها، تبقى في أدنى "سلّم" اهتمامات الإدارة الجديدة، ما يعني أنّ أيّ تغيير على خطّها، إن وُجِد، فلن يبصر النور في المدى القصير، أو حتى المتوسّط.

الضغوط إلى ازدياد...

حتى الآن، لا شيء يشي بأنّ الولايات المتحدة تسعى للابتعاد كلياً عن لبنان، أو أنها قد تعمد لسحب سفيرتها من لبنان، كما فعلت بعض دول الخليج، علماً أنّ البعض يتحدّث عن "تنسيق" بين الجانبيْن على هذا الصعيد.

لكنّ ذلك لا يعني أنّ واشنطن قد لا تفعل ذلك، في إطار رفع مستوى "الضغوط" في المرحلة المقبلة، إن لم تجد "التجاوب" المرجوّ، علماً أنّ هناك من يتّهم الولايات المتحدة أصلاً بـ"التشويش" على المبادرة الفرنسية وصولاً إلى حدّ الإطاحة بها.

وينطلق أصحاب هذا الرأي من أنّ أكبر "الضربات" التي تعرّضت لها المبادرة الفرنسية كانت تتزامن مع خطواتٍ أميركيّة أحادية مفاجئة، اتخذت شكل عقوباتٍ على لاعبين أساسيّين على خطّ الحكومة، ما يؤدّي تلقائياً لرفع هؤلاء سقوفهم التفاوضية، وبالتالي تجميد الاتصالات الحكوميّة بشكلٍ فوريّ.

وإذا كان رفض التدخّلات الخارجيّة من "البديهيات" لأيّ دولةٍ "سيّدة وحرّة ومستقلّة"، كما يدّعي اللبنانيون، ممّن "يستجدون" التدخلات والتدخلات المضادة، فإنّ المشكلة الكبرى تبقى في أنّهم من "شرّعوا الباب" لمثل هذه "الضغوط"، ولا يزالون بإصرارهم على المضيّ في سياساتهم المفضية إلى "جهنّم وبئس المصير"، من دون خوفٍ سوى على "حصصهم"!.