منذ فترةٍ ليست بقصيرة، يُحكى في الكواليس السياسية عن "تعويم" حكومة ​تصريف الأعمال​ برئاسة حسّان دياب، رداً على "التخبّط" الذي يشهده الملفّ الحكوميّ، في ضوء "المماطلة" التي يُتّهَم رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ بانتهاجها، من باب "النكايات الشخصيّة".

لكن، أبعد من العوامل "الشخصية"، والرغبة في توظيفها سياسيّاً، حضرت الكثير من الأسباب "الموجبة" لهذا "التعويم"، من ​الوضع الاقتصادي​ والاجتماعي المتفاقم الذي لم يعد يحتمل "ترف" المقايضة على الحصص والحقائب، إلى ​الموازنة​ التي تجاوزت "منطقة الأمان".

لكن، رغم كلّ ذلك، بقي "التعويم" مجرّد "سلاح إعلامي سياسيّ"، يُستخدَم على طريقة "البروباغندا"، لتوجيه الرسائل المشفَّرة، أو حتى لـ"ابتزاز" رئيس الحكومة المكلَّف بأنّ "البديل" عنه جاهز، إذا ما قرّر "الاعتكاف" مثلاً، مستنداً إلى "ورقة تكليف" باقية "في الجيب".

فهل يبقى الأمر كذلك اليوم، أم أنّ "التعويم" سيتحوّل إلى "أمر واقع"، كما يقول البعض، من بوابة "التدقيق الجنائي" الذي يمكن أن يشكّل "الإخراج الأمثل" له، ولا سيما بعد "الغطاء" الذي قُدِّم من ​مجلس النواب​، وبإجماعٍ قلّ نظيره، بل ربما انعدم؟!.

التعويم "أمر واقع"؟!

ليست المرّة الأولى التي تُطرَح فيها مسألة "تعويم" حكومة حسّان دياب، بشكلٍ جدّي، في الكواليس السياسيّة، وهي التي ارتبطت في الفترة الأخيرة بـ"العُقَد" التي تصطدم بها مهمّة الحريري، إذ كلّما اشتدّت، وتصلّب الرجل في المواجهة، كان يأتي من يلوّح بتعويم الحكومة الراحلة، لعلّه بذلك ينجح في "تليين" موقفه، خشية من السيناريو الذي لا يرغب به، والذي قد يكون أقرب إلى "التطبيع مع الفراغ".

لكنّ الطرح يبدو اليوم كما لو أنّه اكتسب "شرعية مضاعَفة" في ضوء جلسة مجلس النواب الأخيرة، التي عُقِدت بناءٍ على رسالةٍ وجّهها ​رئيس الجمهورية​ من باب وجوب القيام بما يلزم لإحياء التدقيق المالي الجنائي، بعد "انسحاب" شركة "ألفاريز & مارسال" الدوليّة من المهمّة، وانتهت إلى إقرار "قرار-توصية" بوجوب المضيّ قدماً في التدقيق لا بحسابات ​مصرف لبنان​ فحسب، بل كلّ الحسابات التابعة للوزارات والمؤسسات والإدارات والمرافق العامة.

ومع أنّ القرار الذي صدر بقي، وفقاً للخبراء القانونيّين، من دون أيّ قيمةٍ جوهريّة، كونه لم يرتقِ لمستوى القانون، الذي يتيح محاسبة ومساءلة من يخالفه، إلا أنّه فتح الباب أمام جولةٍ جديدةٍ من "مفاوضات" التدقيق، دلّت عليه بوضوح بعض "الاستنتاجات" التي تبعت الجلسة، والتي صدرت عن معظم الكتل، حيث أجمعت على أنّ "الكرة" عادت إلى ملعب الحكومة المستقيلة، التي سيكون عليها أن "تتحرّك" لتفعيل قرارها بالتدقيق الجنائيّ.

وعلى رغم السجال الدستوريّ حول "الصلاحيّات" التي يمكن للحكومة استخدامها، وهي في حالة تصريف الأعمال، فإنّ "اجتهاداتٍ" دستوريّة وقانونيّة بدأت تطفو على السطح السياسيّ خلال اليومين الماضيين، عن "وجوب" عودة الحكومة عن "اعتكافها"، من بوابة "التدقيق"، الذي ينظر إليه البعض كعامل "استثنائي" في ظلّ الظروف التي تمرّ بها البلاد، ما يشرّع "التعويم" بوصفه "أمراً واقعاً" للتصدّي له، بعدما بات واضحاً أنّه "شرطٌ" للإنقاذ، لا مجال للتغاضي عنه أو القفز فوقه.

عقباتٌ ومعوّقات

لكنّ الكلام "المثاليّ" الذي سبق، لا يعني أبداً أنّ "تعويم" حكومة تصريف الأعمال وُضِع فعلياً على النار، وأنّ "الضوء الأخضر" مُنِح لرئيسها للدعوة إلى اجتماعٍ "استثنائيّ" لها في الأيام القليلة المقبلة، لإطلاق "عجلة" التدقيق الجنائي مجدّداً، سواء عبر محاولة إقناع شركة "ألفاريز & مارسال" بمواصلة مهمّتها، أو عبر إطلاق التفاوض مع شركات دولية أخرى، قد تكون متحمّسة للقيام بالمهمّة.

ثمّة العديد من العقبات والمعوّقات التي لا تزال تحول دون مثل هذا الإجراء، أولها "تحفّظ" رئيس حكومة تصريف الأعمال نفسه، الذي لا يبدو "متحمّساً" لتفعيل حكومته، بل يخشى أن يكون الأمر برمّته "فخّاً" جديداً يُنصَب له، بعدما عانى الأمرّيْن أصلاً خلال رئاسته للحكومة، من جانب "عرّابيه المفترضين" قبل خصومه، فضلاً عن كونه يدرك أنّ أيّ "تعويم" للحكومة يتطلّب منها إنجاز الموازنة قبل البحث بأيّ أمرٍ آخر، مهما كان طارئاً أو استثنائياً، وذلك استناداً إلى الدستور وأحكامه، وهو ما يؤكّده أيضاً الدستوريّون والقانونيّون.

وتتوازى هذه الخشية مع اقتناع دياب بأنّ أيّ "تعويمٍ" لحكومته لا يمكن أن يتمّ من دون موافقةٍ صريحةٍ وعلنيّة من قبل الخصوم، ولا سيما تيار "المستقبل"، الذي لا تزال أوساطه تؤكد أنّ أيّ تفكيرٍ بتعويم أو تفعيل الحكومة غير قانونيّ ولا دستوريّ، علماً أنّ "التيار الأزرق" الذي يرفض التعويم عموماً، لن يقبله بحُجّة "التدقيق الجنائي" الذي بات واضحاً أنّه من غير المحبّذين له، ولو اعتمد مبدأ "التحفّظ والنأي بالنفس" تجاهه تفادياً للإحراج، على رغم أنّ "دفاعه" عن حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​ ليس خافياً على أحد.

واستناداً إلى ما سبق، ثمّة من يعتقد أنّ ما حصل في جلسة البرلمان الأخيرة، والذي انطوى على فكرة "رمي الكرة في ملعب الحكومة"، لم يكن أكثر من "مسرحية استعراضية وهزلية"، لإدراك من أخرجوها بأنّ الحكومة "عاجزة" عن القيام بشيء في "الوقت الضائع"، في حين كان الأوْلى بهم الذهاب إلى تحويل "توصيتهم" إلى "قانون ملزم"، خصوصاً بعد تحويل الجلسة إلى تشريعيّة، إلا أنّ عدم القيام بذلك يدلّ على أنّ الرغبة المُعلنة بالتدقيق لا تتعدّى الإطار الكلاميّ، الذي لا يعكس في أيّ جانبٍ منه، ولو من بعيد، النوايا الحقيقيّة والمُضمَرة.

"مسرحيّة هزليّة"!

باختصار، قد تكون معادلة "لا تعويم ولا من يحزنون" هي السائدة، أو بالحدّ الأدنى، الأقرب إلى الواقع العمليّ، بعيداً عن "أمر واقع" يحاول البعض الإيحاء بوجوده، في حين يعملون على "ضمان" عدم حصوله، من خلف الكواليس.

يعود ذلك أولاً إلى انعدام "مقوّمات" هذا "التعويم" طائفياً ومذهبياً وسياسيّاً، وهو الذي لا يتجاوز إطار "التهديد"، مثله مثل "التدقيق الجنائيّ" الذي سعى "ملائكة" البرلمان إلى "ادّعاء" المضيّ به، وهم يضمرون النقيض تماماً.

فلا رئيس الحكومة المكلف يقبل بمثل هذا "التعويم"، ولا رئيس حكومة تصريف الأعمال "متحمّس" له، ولا الأحزاب السياسيّة راغبة به، بما فيها تلك التي لا توفّر فرصة للتصويب على الحكومة "المعتكفة"، بعد تحميلها كلّ المسؤوليّات.

وبناء على هذا "الأمر الواقع"، يصبح كلّ حديثٍ عن تعويم وغيره، جزءاً من "المسرحيّة الهزليّة" التي شهدت آخر فصولها في البرلمان الجمعة الماضي، إلا أنّها لم تعد تنطلي على اللبنانيين، أو على شريحةٍ واسعةٍ منهم بالحدّ الأدنى...