لم يأتِ مؤتمر دعم الشعب ال​لبنان​ي الذي نظّمته ​فرنسا​، بالاشتراك مع ​الأمم المتحدة​، على قدر التوقّعات والآمال، لا من حيث الشكل ولا المضمون، ولا من حيث الظاهر ولا الباطن، ولا من حيث المقدّمات التي مهّدت له ولا النتائج التي توخّاها.

فصحيحٌ أنّ أحداً لم يكن "يراهن" أن يحرّر هذا المؤتمر الكثير من المساعدات الطارئة والعاجلة الإضافية للبنان، الذي فشل في "إقناع" الرأي العام بحجم "مصيبته" في عزّها وأوجها بعيد انفجار المرفأ، إلا أنّ أحداً لم يكن يتوقع أيضاً أن يخرج بالصورة "الهزيلة" التي حصلت.

فعلى الرغم من المشاركة "الواسعة" نسبياً في المؤتمر، والتي شملت العديد من الدول، إلا أنّ "حجمها" معنوياً كان أكثر من "متواضع"، في ظلّ "مقاطعة" معظم رؤساء الدول والحكومات، حتى أنّ الحضور العربيّ أتى "خجولاً"، بغياب دولٍ لطالما اعتُبِرت "شقيقة وصديقة".

وعلى عكس الشكل، جاء المضمون "قاسياً" في وجه الطبقة السياسيّة الحاكمة، مع الرسائل "الصارمة" التي تعمّد الفرنسيّون توجيهها قبل وأثناء المؤتمر، وإن "انطوَت" على تمديدٍ جديدٍ للمبادرة الفرنسيّة، قد لا يتجاوز موعد زيارة الرئيس ​إيمانويل ماكرون​ المقبلة إلى بيروت...

"خيبة أمل"

عندما أعلنت الرئاسة الفرنسيّة تنظيم مؤتمر دعم ​الشعب اللبناني​، بعد تأجيلٍ متكرِّر على خلفيّة عدم تأليف حكومة، تنفّس الكثيرون الصّعداء، على أساس أنّ تنظيم المؤتمر بحدّ ذاته "انتصار"، وأنّه دليلٌ على عدم تخلّي فرنسا عن دعم لبنان، وتمسّكها بالمبادرة التي أطلقتها قبل أسابيع، ولو لم يُنفَّذ منها شيءٌ على أرض الواقع.

وبخلاف ما توقّعه البعض، والفرنسيّون من ضمنهم، لم يستغلّ السياسيّون اللبنانيّون "الوقت الضائع" بين الإعلان والمؤتمر، لإحداث "صدمة إيجابية" عبر الذهاب إليه بحكومةٍ أصيلةٍ تلبّي تطلّعات ​المجتمع الدولي​، بل اختاروا ببساطة "تقطيعه"، حتى أنّ أيّ لقاءٍ، ولو لرفع العتب، لم يسجَّل على مستوى مفاوضات التشكيل.

ولعلّ المشهد "الهزيل" للمؤتمر أتى بما "يتناسب"، وفق معايير المجتمع الدوليّ، مع مثل هذا "التعاطي"، علماً أنّ "الغموض" غير البنّاء بقي مواكباً لتحضيرات المؤتمر حتى ربع الساعة الأخير، لدرجة أنّ معظم الدول المدعوّة لم تعلن مُسبَقاً حجم مشاركتها وشكلها، ولا أكّدت إن كانت ستشارك من الأصل، حتى أنّ لبنان نفسه لم يعلن عن طبيعة مشاركته إلا قبل يومٍ واحدٍ من موعده المقرَّر.

وقد يكون ما سبق مؤشّراً على "انعدام" التوقّعات المُسبَقة من إمكان تحقيق أيّ "خرقٍ" من المؤتمر، ولو أنّ لبنان الرسمي سعى، من خلال كلمة رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، إلى مخاطبة "وجدان" المجتمع العربيّ والدوليّ، عبر "الترحيب" بأيّ مساعدة، أياً كانت وكيفما أتت، بل عبر "مباركة" الآليات التي تتجاوز مؤسسات الدولة، إذا كانت تلك الوسيلة هي التي تضمن وصول المساعدات إلى مستحقّيها.

صرامة ووضوح...

ثمة من يقلّل من "الخيبة" التي حصلت عبر لفت الانتباه إلى أنّ المؤتمر أصلاً لم يكن يتوّخى تقديم المزيد من المساعدات، بل جاء استكمالاً للمؤتمر الأول الذي عُقد في آب الماضي، وبالتالي فإنّ الهدف المنشود منه كان "تقييم" ما تحقّق بالدرجة الأولى، إضافةً إلى مناقشة "الاستجابة الإنسانية للأزمة والجهود التي يتعين بذلها من أجل التعافي المبكر"، وفق ما جاء في البيان الختاميّ.

إلا أنّ مثل هذه الإشارة تبدو "تلطيفيّة" بشكلٍ مُبالَغٍ به، خصوصاً أنّ غياب النتائج الحسّية للمؤتمر أتى "معطوفاً" على رسائل "صارمة" وجّهها المجتمعون إلى الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، بقيادةٍ ومباركةٍ فرنسيّة، علماً أنّ ماكرون كان أكثر من واضح بـ "تنديده" بسلوك هؤلاء السياسيين، الذين قال إنّه سيزورهم مجدّداً خلال الشهر الجاري بهدف "الضغط" عليهم، أقلّه لتحقيق ما وعدوه به خلال مناقشة خارطة الطريق الفرنسية.

وما كان أكثر وضوحاً من كلام ماكرون، تمثّل في "التسريبات" التي تعمّد الفرنسيّون تضمينها الكثير من "الرسائل المشفّرة"، وإرسالها قبيل انعقاد المؤتمر، حيث كان الانتقاد شديداً لعدم وفاء المسؤولين اللبنانيّين بأيّ من تعهّداتهم على مستوى الإصلاحات المطلوبة، فضلاً عن عدم إحرازهم أيّ تقدّم على خطّ التدقيق الجنائيّ بحسابات ​المصرف المركزي​، الذي هلّلوا لإقراره في ​مجلس الوزراء​ على أنّه "إنجاز تاريخيّ"، قبل أن يطيّروه في أول فرصة سانحة.

لكن، أبعد من كلّ ما سبق، قد يكون "فقدان الثقة" بالطبقة السياسيّة الذي عبّر عنه المجتمعون جميعاً، في الشكل والمضمون وكلّ التفاصيل، الرسالة الأهمّ والأكثر صراحةً، وهي رسالة ينبغي أن يدرك معانيها كما مفاعيلها من لا يزال يصرّ على اعتماد "الغنج" في مقاربة الاستحقاقات الدقيقة، وعلى رأسها ​تأليف الحكومة​، وفق منطق "​المحاصصة​" وأدواتها التقليديّة، من دون أي اعتبار للتغيّرات "الهائلة" التي سُجّلت منذ الانهيار الاقتصادي إلى انفجار المرفأ، مروراً بـ"الثورة" التي حذفها البعض من ذاكرته.

"فسحة أمل"؟

يحلو للبعض الحفاظ على "التفاؤل"، رغم كلّ "السوداوية"، والتقاط الجوانب الإيجابية من مؤتمر الدعم، مستنداً بذلك بشكلٍ أساسيّ، إلى إعلان الرئيس الفرنسيّ أنّ زيارته إلى لبنان لا تزال على "الأجندة"، وأنّه سيواصل "الضغط" على المسؤولين.

وبالطريقة نفسها، يتنفّس هذا البعض الصعداء، من خلال "حذف" العقوبات من الخيارات المُتاحة، بعد قول الرئاسة الفرنسية إنّ ​العقوبات الأميركية​ التي فُرِضت على عدد من المسؤولين اللبنانيين لم تنفع، بل لم تُحدِث أيّ تغيير.

قد يكون صحيحاً أنّ ما سبق دليلٌ على أنّ الفرنسيّين لم يستسلموا بعد، ولو أنّهم لا يفعلون ذلك "كرمى لعيون" اللبنانيين، بل خوفاً على التداعيات السلبيّة على دورهم في المنطقة، وبالتالي أنّ مبادرتهم لا تزال قابلة للحياة، بخلاف ما قيل عن أنّها أنهت مخدوميّتها، ورحلت غير مأسوفٍ عليها.

لكن، حتى لو صحّت مثل هذه الفرضية، فإنّ الأكيد أنّ المبادرة التي يتوقع كثيرون أنّها باتت "ميتة سريرياً" لا يمكن أن تبقى إلى ما شاء الله، إذا ما بقي اللبنانيون مصرّين على تغليب "النكايات الشخصية" كما هو حاصلٌ حالياً، علماً أنّ هناك من يعتقد أنّ زيارة ماكرون المقبلة قد تكون "فاصلة" على هذا المستوى...