كان من المُفترض أن يتفرّغ السياسيون ال​لبنان​يون لبت ملف تأليف ال​حكومة​. لكن التباينات بقيت تحكم علاقات القوى بعضها ببعض: لا ثقة. وكأن قدر اللبنانيين أن يدفعوا الأثمان غالية مرتين، مرة عند إتفاق السياسيين، ومرة عند إختلافهم. لا إتفاق الآن على أسماء التشكيلة الحكومية، فيما البلد ينحدر نحو كارثة إجتماعية بدأت تطلّ بوادرها برفع الدعم عن المواد: ماذا لو امتنعت ​المصارف​ خارج لبنان من تحويل أي أموال من الإحتياطي الإلزامي، في حال تقرّر الإستعانة به؟. كيف سيعيش المواطنون، وقد بات معظمهم يتوزّع بين ​الفقر​ والأكثر فقراً؟ كيف سيصمد راتب الحد الأدنى الشهري أمام ​ارتفاع الاسعار​ بعد فقدان الدعم؟ من يضبط ​سعر الدولار​ أمام تراجع قيمة ​الليرة اللبنانية​؟ لا أجوبة، بغياب فاعلية حكومة ​تصريف الأعمال​، وعدم القدرة السياسية على ​تكليف​ حكومة أصيلة. أين المسؤولية الوطنية ​الجامعة​؟.

إنه الوقت اللبناني الضائع، الذي يهلك فيه المواطن المسحوق في قعر ​الأزمة​ المعيشية، بينما لا تزال القوى السياسية تتصارع حول الحصص الحكومية. لا نية ظاهرة عند هذه القوى ذاتها لتقديم تنازلات جوهرية لمعالجة الأزمة، ولا الوقوف عند هذا الحد من التأزم، بل يتحضّر البلد لمبارزات سياسية في الساحتين القضائية والإعلامية في وقت ​الفراغ السياسي​ والإقتصادي، بدل التكاتف الوطني لوقف الإنهيار.

تتحدث المعلومات عن تحضير قوى لملفّات تحت عنوان "​مكافحة الفساد​" للبدء بخطوات قضائية وحملات إعلامية مواكبة. فلماذا تحل الآن؟ لماذا كانت القوى السياسية تتحالف او تتشارك فيما بينها في الحكومات والإنتخابات وتنظيم الصفقات، ثم عندما اختلفت سياسياً فيما بينها، قرّرت فتح الملفات لبعضها البعض؟ من هنا سيشكّك ​اللبنانيون​ بأيّ خطوة تأتي في هذا السياق. سيقول المواطن: فات الآوان. لا هم عند اللبنانيين الآن سوى وقف الإنهيار الإجتماعي، ومعالجة الأزمة المعيشية. شبع المواطنون من التشخيص، ومن مراكمة الحملات التي تخفي ضمناً تهرباً من المسؤوليات. يريد اللبنانيون علاجاً يبدأ بتأليف حكومة وطنية مسؤولة تمنع الهدر وتنفّذ خطة التعافي بتدرّج وواقعية، على أن تعود ​أموال المودعين​ الضائعة او الممنوعة من الصرف.

بما أن القوى السياسية هي من يفتح تلك الملفات القضائية، وتغوص في الحملات الإعلامية لتلميع الصورة الذاتية، يعني أن اللبنانيين سيتعمقّون في الإنقسام بحسب المشهدية المكشوفة المقبلة: كل شيء في لبنان وجهة نظر.

فلماذا يُدرج لبنانيون مثلاً، أيَّ دعوى عند قاضية، بأنها تأتي لخدمة فريق سياسي؟ ماذا لو صدرت دعاوى قضائية مُقابلة في دوائر أخرى تقف خلفها دوافع سياسية مختلفة؟. هكذا يتمّ إدخال ​القضاء​ في ساحات السباق السياسي خلال فترة الفراغ اللبناني، وسط محاولة كل فريق رمي كرة الأزمة المعيشية في مرمى الخصم. والخطير أن هناك من بدأ يرفع الصوت مشكّكاً بقضاة، قبل أن يأتي تصريح وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال ​محمد فهمي​ خلال حديثه التلفزيوني، حول "فساد في القضاء". يستند هؤلاء المشكّكون في دوافع الدعاوى القضائية، إلى واقعة تجميد ​التشكيلات القضائية​، ويعتبرون أن خطوة التجميد جاءت تلبية لمصالح سياسية. ومن هنا يبدأ التباين اللبناني في وجهات النظر بشأن عمل ومهام ودوافع بعض ​القضاة​ النافذين المحظيين بتغطية سياسية.

لا مصلحة للبلد بأن يجري التصويب على الجسم القضائي الذي يضم قضاة نزيهين وقديرين ووازنين ومرموقين. وحدها القوى السياسية هي التي تتحمل مسؤولية تسييس القضاء، من خلال تدخلاتها، وحماياتها، وتجميد التشكيلات والوقوف خلف الدعاوى المدرجة في خانة النزاع السياسي.

اما بالنسبة الى الإعلام الذي أصبح منصّات للإستهداف بكل إتجاه، فإن خطاباته الآتية ستقود البلد مجدّداً الى مزيد من الإنكشاف تحت العنوان ذاته ايضاً: كيف ستجتمع القوى السياسية بعدها؟ وماذا سيقدّم الخطاب التصعيدي؟ جرى تسريبُ معلومات عن خطط حزبية تمّ وضعها، لشن حملات إعلامية تهدف لتلميع صورة قوى وتشويه أخرى، من خلال عنوان "مكافحة الفساد". مما يعني أننا دخلنا في متاهات الفوضى الإعلامية التي ستزيد اللبنانيين قلقاً على المصير في بلد منكوب مسلوب.

لا بصيص أمل، ولا بوادر حلول، بينما كانت تقتضي المصلحة الوطنية الذهاب فوراً إلى تطوير النظام السياسي والإستفادة من الأزمة الحالية لدفع البلد نحو المواطنية والمدنية التي تشكل مداميك الحلول المستدامة. يصح هنا القول عن لبنان: فالج لا تعالج.