تشتدّ الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية حدة يوماً بعد يوم، في ظلّ انسداد أفق الحلول السياسية، فيما الحديث عن أسباب هذه الأزمات المتفاقمة لم يعد موضع جدال كبير.

فهذه الأسباب تكمن في السياسات الريعية التي همّشت الإنتاج الوطني وقلصت دور الدولة الاجتماعي، ودشنت سياسة رفع الضرائب غير المباشرة، والتخصيص، وإعمار البلاد عبر الاستدانة وتثبيت سعر الصرف بواسطة سندات الدين ذات الفوائد المرتفعة، الى جانب إشاعة الفساد في كلّ مفاصل الدولة من خلال إعطاء الضوء الأخضر لإجراء عقود التلزيم بالتراضي، بعيداً عن دائرة المناقصات وأعين أجهزة الرقابة والمحاسبة.

هذه الازمة المتشعّبة، التي انفجرت على مصراعيها، وانهارت معها القدرة الشرائية للمواطنين، تتحمّل مسؤوليتها الطبقة الحاكمة التي حكمت البلاد منذ عام 1992 وانتهجت السياسات الآنفة الذكر… وما زاد الطين بلة انّ هذه الطبقة ربطت لبنان بعجلة التبعية الاقتصادية والمالية للدول الغربية الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.. فباتت المصالح مترابطة ومتشابكة بين الطبقة الرأسمالية اللبنانية الريعية، والرأسمالية الغربية التي شجعت ودعمت هذه السياسة الريعية، ومنظومة فسادها، لأنها توفر للغرب شروط استدراج لبنان إلى الغرق في فخ الديون والتبعية لصندوق النقد والبنك الدوليين والدول المانحة، وهذا ما يتجسّد الآن من خلال الشروط التي تفرضها هذه الدول وصندوق النقد لقاء إقراض لبنان.. وهي شروط هدفها إخضاع لبنان مالياً واقتصادياً واستطراداً سياسياً بما يخدم السياسات الأميركية الغربية الداعمة للسياسات الصهيونية لفرض مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تولت المنظومة الحريرية تنفيذ الشق اللبناني الخدماتي منه، وجرى تبرير إغراق لبنان بالاستدانة لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب بالقول انّ هذه الديون سوف تلغى عندما تتحقق التسوية للصراع العربي الصهيوني.

غير أنّ الرياح لم تجر كما تشتهي سفن أميركا.. فالمشروع الشرق الأوسطي الجديد، الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليسا رايس، دفن في المرة الأولى مع انتصار المقاومة الاستراتيجي والتاريخي عام 2006، ثم دفن مرة ثانية مع انتصارات سورية في مجابهة الحرب الإرهابية الكونية التي قادتها أميركا.

انطلاقاً من ذلك عمدت إدارة العدوان في واشنطن إلى شنّ الحرب المالية الاقتصادية ضدّ لبنان لأجل محاصرة المقاومة ونزع سلاحها والقضاء عليها، بهدف إعادة إخضاع لبنان بالكامل للسياسات الأميركية الغربية الصهيونية، بحيث يعود قاعدة لتنفيذ المشاريع الاستعمارية في الدول العربية وفي المقدمة سورية.. وإذا كانت أهداف هذه الحرب المالية الاقتصادية لم تنجح في تحقيق أهدافها السياسية، إلا انها نجحت في صبّ الزيت على نار الأزمة وإشعالها ومفاقمتها وتحويل حياة اللبنانيين إلى جحيم خصوصاً عندما يبدأ رفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية تدريجياً، وهو ما عكسه تقرير البنك الدولي..

من هنا فإنّ النضال للخروج من الأزمة العاصفة بالبلاد وتدارك المزيد من تداعياتها الخطرة على الوضع الاجتماعي، بات مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالنضال لتحقيق هدفين أساسيّين:

الهدف الأول، تغيير السياسات الريعية، وإسقاط منظومة الفساد.. لمصلحة اعتماد سياسات تنموية اقتصادياً، وتحقق العدالة الاجتماعية.

الهدف الثاني، تحرير لبنان من قيود التبعية الاقتصادية والمالية للنظام الرأسمالي الغربي.. بالعمل على تنويع علاقات لبنان الاقتصادية من خلال اعتماد خيار التوجه شرقاً.

فالمعركة واحدة في الاتجاهين، لا يمكن فصلهما عن بعضهما للأسباب التالية:

1 ـ ان طبقة الرأسماليين الريعيين الذين أثروا إثراء غير مشروع هم الفاسدون الذين أوغلوا في فسادهم وعمّموا الفساد وأباحوا نهب المال العام وعقد الصفقات مع الشركات الأجنبية والمحلية لتنفيذ عقود التراضي.

2 ـ انّ هذه الطبقة من الريعيين كانت ولا تزال محمية من العواصم الغربية لأنها توفر لها الشروط والظروف لاستمرار فرض هيمنتها الاقتصادية والمالية على لبنان.. هيمنة باتت قيداً يمنع تحرّر لبنان من نظام التبعية الذي يقف وراء إغراق البلاد بالديون، وغياب التنمية والعدالة الاجتماعية، وإفقار اللبنانيين وانهيار قدرتهم الشرائية، وزيادة أعداد العاطلين من العمل…

3 ـ انّ الطبقة الرأسمالية الريعية هي التي تقف وراء استمرار الأزمة والارتهان للحرب الاقتصادية والمالية وإرهاب العقوبات الأميركية وشروطها لفرض حكومة تنفذ طلبات وإملاءات واشنطن التي هي إملاءات صهيونية، انْ كان لناحية الرضوخ لطلبات العدو الصهيوني بما خصّ تحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أو لناحية نزع سلاح المقاومة بدءاً بالصواريخ الدقيقة التي عززت معادلة الردع في مواجهة العدوانية والأطماع الصهيونية…

خلاصة القول، انّ معركة التحرر من الطغمة المالية الريعية وسياساتها المدمّرة للاقتصاد والتي أفقرت اللبنانيين، مرتبطة بالمعركة ضدّ الهيمنة الأميركية وحروب الحصار والعقوبات.. وعليه لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته ما لم يتخلص من سلطة الطبقة الريعية التي أفلست البلاد، ويتحرّر من التبعية والارتهان لقوى الاستعمار الغربي بقيادة أميركا.. واستطراداً تمكن لبنان من امتلاك قراره في تنويع خياراته الاقتصادية..