كلما تعقدت الامور في ​تشكيل الحكومة​ وتقسيم الوزارات وتعيين الوزراء، طفت الى السطح مجموعة عوامل وخيارات وافكار منها دستوري ومنها "عرفي" ومنها قانوني... اليوم نعيش الوضع نفسه ولكن يبدو ان الامور تتجه الى التصعيد الكبير والحرب المفتوحة بين ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​ من جهة ورئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ من جهة ثانية، بدليل حرب "المصادر" و"التسريبات" من هنا وهناك من جهة، والتهديد بنزول "نادي رؤساء الحكومة السابقين" و​دار الفتوى​ من جهة ثانية على ساحة المواجهة. كنا اعتدنا على مثل هذه الامور سابقاً، ولكن الوضع يختلف حالياً بسبب الازمة الاقتصادية والمالية، ووجود مباردة فرنسية مدعومة من الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ شخصياً، والتغيير المرتقب في ​الرئاسة الاميركية​، وانقسام اللاعبين السياسيين المحليين، واجواء المنطقة بشكل عام. الوضع اليوم على الساحة السياسية بالغ التعقيد ولكن امد الحرب المفتوحة لن يكون مفتوحاً من حيث المدّة لانّ زيارة ماكرون المرتقبة اواخر هذا الشهر وقبل ​عيد الميلاد​ المجيد، من شأنها ان تخفّف من مفاعيلها وتعيدها الى وضع ​الحرب الباردة​ مجدداً.

الانقسام في المواقف من خطوة الحريري الاخيرة باعلانه انه وضع تشكيلة من 18 وزيراً لدى رئيس الجمهورية، وردّ الاخير بأنّه زوده بطرح متكامل لشكل الحكومة، كان بارزاً. مؤيّدو خطوة الحريري رأوا فيها قوّة له ودفاعاً عن صلاحيّاته، وانقاذاً للمبادرة الفرنسيّة عبر استقلاليّة معيّنة تفسح المجال امام تشكيلة كما يريدها هو و​المجتمع الدولي​، وانبرى ايضاً للدفاع عنه فريق رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ الذي هاجم عون واعتبر ما قام به مخالفة دستوريّة. ومن خلال كلّ ذلك، بدا الحريري وكأنّه فتح المعركة مع عون على نطاق اوسع، لاحراجه امام الداخل والخارج واظهاره المعرقل عبر مطالبته بالثلث المعطل، معتبراً انه أمر لا يمكن ان يتكرر لأيّ مكون من المكونات ال​لبنان​ية في هذه الحكومة لانّ تداعياته باتت معروفة ولا يمكن الركون اليها.

في المقابل، يعتبر معارضو الحريري انّه استغل الوضع اكثر مما يجب، فهو لم يكن ليصل مجدداً الى ​رئاسة الحكومة​ لولا دعم بري وتخطيطه لذلك، وهو (أيّ الحريري) لا يزال من الوجوه السّياسية المتّهمة ب​الفساد​ والهدر وكان على رأس الحكومة حين اندلعت التحرّكات في الشارع. ويضيف هؤلاء انّ رئيس الحكومة المكلّف لم يستطع مواجهة ​الثنائي الشيعي​، فاختار المواجهة مع عون وعدم معاملته بالمثل من حيث الحصّة وتسمية الوزراء، فلماذا الاستقواء على رئيس الجمهوريّة دون غيره؟ وماذا لو لجأ الى طائفته والمرجعية الدينية لتعديل ميزان القوى؟ ولماذا يعتبر الحريري انّ الفرنسيين يؤيّدونه في خطوته هذه التي تأتي على حساب قوة المسيحيين وصلاحيّاتهم وفق العرف المتبع منذ عقود من الزمن؟.

طريق مسدود في الافق السياسي لا يبدو ان بصيص النور في نهايته سيكون متاحاً حالياً، ولكن الايام المقبلة قد تحمل معها بعض رياح التغيير، انّما المؤكّد انه لن يكون تغييراً ايجابياً للبنان بشكل عام، بمعنى انّ التسوية غالباً ما ستكون عبر ​سياسة​ "الترقيع" وارضاء الجميع دون ايّ اعتبار لمعايير الكفاءة والشفافيّة، وهذا بات معلوماً وليس بحاجة الى الكثير من التحليل والتنظير. لا مفر من ترقّب ما سيحمله معه ماكرون خلال زيارته المقبلة الى لبنان، ولا يبدو انّ الامور ستكون ميسّرة من الآن وحتى وصوله، في حين ان الكل يؤكّد عدم رغبة الحريري في الاعتذار، وعدم قبول عون بحكومة يعتبرها "امر واقع" سترافقه وتضع شروطها عليه، فيحصد الحريري الثّمار ويبقى هو في موقع المتفرّج، والاهمّ انه سيكون متّهماً باغراق لبنان في المجهول فيما بادر الحريري الى انقاذ البلد، فتترك بصمة سوداء على عهده لن يكون من الممكن نسيانها.