الله في القديم كان محطَّ بحثٍ وتساؤل. ألقابٌ كثيرة أُطلِقت عليه في مُختلفِ الحضارات. مثلًا إيل EL عند الكَنعانيّين الّذي اشتُقَّ منهُ إلوهيم بِالعِبريَّةِ واسم الله بالعرَبِيَّة، وكرونوس Cronos وزُوس Zeus عِندَ الإغريقِ، وساتورن Saturne وجوبيتر Jupiter عند الرُّومان، وأتوم Atum إله الخلق وأتون Aton الإله ​الشمس​ عِندَ المِصريّين. حتّى أنّنا نَجدُ نَشيدًا مِصريًّا لهذا الأَخيرِ ألَّفهُ الفِرعونُ"أخناتون" يَقُولُ فيه: "أيُّها القِرصُ الّذي صَدرت منهُ الحَياةُ، أيُّها الإلهُ الأوحدُ الّذي لا نَظيرَ له، خَلقْتَ البَشرَ لأَجلِكَ، أنتَ رَبُّهم جَميعًا الّذي يَتعَبُ مِن أَجلِهم".

كذلك نجدُ في النُّصوصِ الأُوغاريتِيَّة–رأس شمرة، على السّاحلِ السُّوريّ، في ضَواحي شَمالِ اللّاذِقِيّة، كلامًا للإلهِ "إيل"، يُؤكِّدُ فيهِ أنَّ الحربَ هي ضِدُّ إرادَتِه، ويطلبُ مِنَ الجَميعِ أن يَزرَعُوا السَّلامَ والمَحَبَّةَ في العَالَم. يُعارِضُهُ بِشِدَّةٍ الإلهُ الفينيقيُّ "بعل" الّذي يَبطُشُ ولا يَرحَمُ، وصَوتُهُ صوتُ الرَّعد، تُسانِدُهُ إلاهةُ الحَربِ "أنات"Anat الفينيقيّة أيضًا مُعلِنَةً: "سَيخضعُ إيلُ لرغَباتي، وسأقضي عليهِ أرْضًا مِثلَ الحَمَلِ، وسأجعَلُ لونَ شعرِهِ الأبيضِ أحمرَ كالدَّم، إلى أن يُعطِي لِبَعلَ مَسكِنًا".

ولخَّصَتِ الفَلسفاتُ اليُونانيّة اللهَ باسم Mονάς"" Monas والذي يُتَرجَمُ بـ"الواحد الأحدL’UN"، وهُوَ المَصدرُ لكُلِّ الخليقة، والمُتعالي والمُكتَفِي بِذاتِهِ، لا يُشارِكُ أحدًا بِشَيءٍ، والصُّعودُ لإدراكِهِ ذَوبانٌ في فَلَكِهِ، ولا يَتعاطى مع الأَسفلِ إلّا من خلالِ وُسطاءَ، إذ هُوَ المُنَزَّه.

هذه البَانُوراما البَسيطةُ تُلخِّصُ بحثَ ​الإنسان​ِ الدَّائمِ عنِ السَّلامِ مِن جِهَةٍ، وتَحالُفَ قُوى الشَّرِّ ضِدَّ السَّلامِ مِن جِهَةٍ أُخرى.

وظَلَّ هذا الأَمرُ سَائدًا حتَّى أتى إلهُ السَّلامِ الحَقيقيِّ ومُخلِّصُ العَالَم، يَسوعُ أي "يَهوه يُخَلِّص". وَلِلأسفِ أَخذَ الإنسانُ دورَ الآلِهَةِ"بعل" و"أنات" وغيرِهم، مَعَ الفَرقِ أنَّ يَسوعَ خرجَ مُنتَصِرًا وغالِبًا الشَّيطانَ في عُقرِدارِهِ، فَحرامٌ عَلَينا أن نَعودَ ونسمَحَ للشِّريرِ أن يُقيمَ مَسكَنَهُ فينا، نَحنُ هَياكِلَ الرُّوحِ القُدُسِ الّذين خَلَقَنا اللهُ على صُورَتِهِ كَشِبهِهِ.

يَسوعُ إلهُنا أتى وَضِيعًا لَكِنَّه قَويٌّ، رحيمًا لكنَّه حازمٌ، مُحِبًّا لكِنَّه عادلٌ وقاطِعٌ بِاستِقامَةٍ كَلِمَةَ الحَقِّ. هَمُّهُ خَلاصُ الإنسانِ، يَبحَثُ عَنهُ أَينَما كان. لا يَترُكُه ولا يُهمِلُه. أعطَانا كَلِمَةَ الحَياةِ، ودَعانا للالتِصَاقِ بِه، ووَعَدَنا بِالحَياةِ الأبَدِيَّةِ، بِالرُّغمِ مِن كُلِّ الصُّعُوباتِ والضِّيقَات، فقالَ لنا:"قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا:أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ"(يوحنا ٣٣:١٦).

في هذا الأَحدِ نرى مَشهَدًا غَرِيبًا يَذكُرُه الإنجِيل. يَسوعُ يَشفِي عَشرةَ بُرصٍ. الغَريبُ أنَّ مَن كانَ يُصيبُهُ البَرَصُ يُصبِحُ مَنبُوذًا ولا يَقتَرِبُ منهُ أحدٌ، وكان يُطرَدُ مِن المَدِينَةِ، فكان المُصابُونَ يَعيشُونَ جَماعَاتٍ معًا يَنتَظِرُونَ حَتفَهُم. نَادَوهُ وطَلبوا الرَّحمَةَ، فأجابَهُم ودَعاهُم لِيَتَوجَّهُوا إلى الكَهَنَةِ أي كَهنةِ اليَهود. وأثناءَ انطِلاقِهِم بَرِئوا. تَسعةٌ أكمَلُوا طَريقَهم، وغَريبٌ سَامِريٌّ رَجِعَ وسَجَدَ للرَّبِّ وشَكَرَه. وهُنا نَسمعُ يَسوعُ يَقول: "أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْدًا للهِ غَيْرُ هذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ"؟(لوقا ١٧:١٧-١٨).

يسوعُ هنا يُعلِنُ أنَّهُ الكَاهِنُ الحَقِيقيُّ الّذي قال "أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً"(متى ٧:١٢)، أي إنّ الذَّبيحَةَ المُقَدَّمَةَ للهِ خَارِجَ الرَّحمَةِ لا فَائِدَةَ منها. وطَلَبُهُ أن يُظهِرُوا أنفُسَهم لِلكَهَنَةِ ما هُوَ إلّا تَذكيرُ كَهنةِ اليَهُودِ بِماهيّة الكَهنوت الحقِيقيّ. فكُلُّ مُحرَقَاتِهم الّتي كانُوا يُقَدِّمونَها وهُم يَصعَدُونَ دَرَجَ الهَيكَلِ، ويُبَوِّقُونَ ويُرَتِّلُونَ المَزاميرَ، سَئِمَها الرَّبُّ لأَنَّها كانَت طَقسِيَّةً مَحض.

ورُجوعُ غَيرِ اليَهُودِيّ إلى يَسوعَ، ما هُوَ إلّا تَعليمٌ أنَّ حِفظَ الشَّريعَةِ مِن دُونِ عَيشِها مَرضٌ عُضَال. اليَهودُ التِّسعَةُ كانُوا يَطلُبونَ الشِّفاءَ الجَسدِيّ فَقَط، حَالُهُم هذا كَحَالِ مَجمَعِ اليَهُودِ الّذي بَاتَت عِندَهُ الشَّريعَةُ خَارِجَ الرُّوحِ، لا تَعدو كونَها مُمَارَساتٍ جَافَّةً وسَعيًا يَومِيًّا نحو المَجدِ البَاطِل والفَارِغ. فقدوم هذا الغريب ما هو إلّا مِن ضمن ما قاله الربّ: "وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"(مت ١١:٨)، فيسوع أتى للجميع.

وإذا طَرَحنا السُّؤالَ:"ما بَالُ الربِّ يَطلُبُ الشُّكرَ وهُوَ المُعطِي كُلَّ شَيءٍ مَجّانًا"؟ يَأتِينا الجَوابُ في تَفسيرِ فِعلِ الشُّكرِ الّذي ذَكَرَهُ الرَّبُّ "εὐχαριστῶνEvkhariston". هو مؤلّف مِن Ευ أي الشَّيءُ الصَّالِحُ والسَّارُّ، وχαριστώ مِن χάρις أي النِّعمَة.

إذًا، هُوَ لم يَطلُبِ الشُّكرَ لِنَفسِهِ بَل يَرجُو أن نَعِيَ النِّعمةَ المُخَلِّصَةَ الّتي مَنَحَنا إيَّاها بِجَعلِنا أَبناءً لَه.

هذا السَّامِريُّ لَخَّصَ بِشُكرِهِ كُلَّ ما كَانَت تَبحثُ عَنهُ الحَضارَاتُ قَدِيمًا، فَها هُوَ وَاقِفٌ أمامَ الإلهِ الحَقِيقيّ الّذي كَسَرَ كلّ الحواجز التي رسمها الإنسان عن الله، وأتى إلَينا وجهًا لوجه لأَنَّهُ عَشِقَنا حتَى المَوت.

فَشُكرًا لَكَ يا رَبُّ، إفخاريستو ευχαριστώ على كُلِّ شَيءٍ، ومَا قُدَّاسُنا الإلَهِيُّ سوى سِرِّ الشُّكرِ لِتَدبِيرِكَ الخَلاصِيّ للبَشَر، لأنَّهُ مَهما تآكَلَنا مَرضُ الخَطِيئَةِ فأنتَ تُطَهِّرُنا وتُعيدُنا أَنقِيَاءَ إن نَادَينَاكَ كمَا رَفعَ البُرصُ صَوتَهم:«يَا يَسُوعُ، يَا مُعَلِّمُ، ارْحَمْنَا».

فالمَجدُ لَكَ يا رَبُّ المَجدُ لَك.