لطالما عُرِف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ بانعطافاته السياسيّة الدوريّة المتكرّرة، التي يربطها كثيرون بجودة "أنتيناته السياسيّة"، وقدرته على التقاط المتغيّرات الاستراتيجيّة والإقليميّة، والتعامل معها على طريقة "الأمن الاستباقيّ"، إن جاز التعبير.

لكن، مع تراجع دور "بيضة القبّان" الذي تفوّق "البيك" في لعبه، خلال مرحلة الانقسامات العموديّة في ​لبنان​ بين معسكري الثامن والرابع عشر من آذار، انكفأ الرجل بشكلٍ أو بآخر، لصالح "وسطيّةٍ" سعى من خلالها إلى إرساء "توازنٍ" أراده "ضامنًا" لبيئته الشعبيّة.

في الأسابيع القليلة الماضية، ثمّة تغييرٌ عاد البعض ليلمسه، ويرصده في مواقف جنبلاط الذي استعاد "وهجاً" فقد الكثير من بريقه إعلامياً، فكثّف إطلالاته الإعلامية، ولا سيّما التلفزيونية، وبدا كمن يعيد تموْضُعه السياسيّ، بدليل تصويبه على ​إيران​، كما لم يفعل لأشهرٍ خَلَت.

وفي حين يربط البعض المواقف "الجنبلاطيّة" المستجدّة بالمتغيّرات الإقليمية، خصوصًا في ضوء ما يُحكى عن تشكيل "جبهة" ضدّ إيران، فإنّ هناك في المقابل، من يصرّ على وضعها في سياق معارك الداخل، وإصرار "البيك" على القول للقاصي والداني: "نحن هنا"!.

صراع على الحصص؟

خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدا جنبلاط كمن يبحث عن "المشكل"، فتارةً يصوّب على إيران، ومن خلفها "​حزب الله​"، وطوراً يهاجم رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، بوصف "العهد" أساس المشكلة لبنانيّاً، ولا يوفّر بين كلّ هؤلاء، "صديقه" رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، فيحمّله جزءًا من مسؤولية التأخير في ​تأليف الحكومة​، ويدخل في "سجالاتٍ ناريّة" معه ومع الفريق المحسوب عليه.

مثل هذا "التخبّط" في مقاربة المسائل، لا يربطه الكثير من المراقبين، سوى بالواقع الداخليّ، وبحث جنبلاط الدائم عن "حيثيّة" يتكئ عليها، للحفاظ على الدور "التاريخيّ" الذي تصدّى له على مرّ سنوات، ولذلك مثلاً شمل بهجومه، في أكثر من محطّة، الحريري الذي يفترض أن يكون معه على "الموجة نفسها"، خصوصاً في مواجهة "العهد"، وطالما أنّه يشاركه الأفكار والقناعات نفسها.

ولا يتردّد هؤلاء في الحديث عن أنّ السبب الأساسيّ خلف كلّ ذلك يبقى في "امتعاض" جنبلاط من المسار الذي أخذه الملف الحكوميّ، والذي يعتبر أنّ الحريري "جُرّ جَرّاً" إليه، علماً أنّه يجاهر علناً برفضه للحصّة الحكوميّة التي مُنِحت له، بما فيها حقيبة الخارجية الموصوفة عرفاً بـ "السياديّة"، والتي لا يرى فيها جنبلاط سوى "الإحراج"، بعيداً عن كلّ المزايا الوهميّة، وهو سبق أن صرّح في الإعلام عن "نوعيّة" الحصّة التي يريد، وهو ما لم يحصل عليه.

أما دعوة جنبلاط للحريري إلى "الاعتذار" في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، واتصاله به "تضامناً" بعد الفيديو المسرَّب لرئيس الجمهورية يتهمه فيه بـ "الكذب"، فكلّها أدواتٌ يستخدمها جنبلاط، وفق ما يرى المراقبون، في سياق "المعركة" التي يخوضها مع "العهد"، خصوصاً بعدما بات على قناعة بأنّ "المساكنة" بين عون والحريري تبدو مستحيلة، وقد يكون "المَخرَج الأمثل" بالقفز إلى الأمام، تماماً كما حصل بعد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول.

أبعد من الداخل

لكنّ هذه النظرية تصطدم في المقابل، بالعديد من علامات الاستفهام، حول خلفيّات "اندفاعة" جنبلاط في التصويب على "محور المقاومة" ككلّ، بدءاً من "حزب الله" في لبنان، حيث استعاد خطاباً "مناهضاً" بالكامل، حتى أنّه كان من أوائل المنظّرين حول مؤسسة "القرض الحسن"، وصولاً إلى الهجوم على إيران، بعد أشهرٍ من شبه "المهادنة"، إن جاز التعبير.

يقول البعض في هذا السياق، إنّ من يعرف أدبيّات "البيك" وطريقته في العمل، والحسابات والاعتبارات التي ينطلق منها، لا بدّ أن يربط مستجدّات خطابه بالمتغيّرات الإقليميّة، التي لطالما كان جنبلاط يبني عليها مواقفه، وفي مقدّمها المصالحة الخليجية، التي تشير بعض الأوساط إلى أنّها تمّت وفق قاعدة "التصدّي للتدخّلات الإيرانيّة"، وهو ما ورد أصلاً بصراحةٍ كاملةٍ في كلمة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان خلال قمّة العُلا.

وفيما يرى هؤلاء أنّ جنبلاط أراد أن "يحجز" موقعاً متقدّماً له في هذه "الجبهة"، وبالتالي "التسوية" التي قد تكون قيد الاختبار في المنطقة، خصوصاً بعدما شعر أنّ هناك "بدلاء" له على الساحة اللبنانية، ثمّة من يذهب أبعد من ذلك، بالقول إنّ الرجل بدعوته الحريري إلى "الاعتذار"، كان يترجم فهمه لهذه المتغيّرات الإقليميّة، قبل أيّ شيءٍ آخر، ولو كان هذا "الاعتذار" أقصى ما يتمنّاه "العهد" في كلّ الأحوال، وكما أصبح واضحاً من مواقف عون وباسيل الأخيرة.

ولعلّ الدليل على ذلك أنّ رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" حين طلب من الحريري "التخلّي" عن ​رئاسة الحكومة​، قال ما معناه "لنترك الساحة لحزب الله والتيار الوطني الحر ليشكّلا الحكومة التي يريدان"، بما يؤدّي ربما إلى "استنساخ" حكومة حسّان دياب، بعيداً عن أيّ حلّ وسط، ويقوّض كلّ الآمال بتوافقٍ يسهم في إنقاذ البلاد من الانهيار الذي وقعت فيه، ويعيد الاشتباك السياسيّ الداخليّ إلى أوجه، ترجمةً لمتغيّرات الخارج.

إلى أين؟

يقلّل البعض من شأن مواقف جنبلاط، باعتبار أنّ "الزعيم" الذي كان له "ثقله" في مرحلة من المراحل، استناداً إلى "الهيبة" التي يتمتّع بها، لم يعد يملك ذات "الوزن" اليوم، وأنّ كلّ ما يفعله هو لإثبات الوجود، ليس إلا.

ويذهب البعض، أبعد من ذلك، بوضع مواقف الرجل، في إطار "ردّه" على إشهار "العهد" بطاقة خصمه ​طلال أرسلان​ في وجهه، كلما أراد "التنقير" عليه، وما الإصرار على توسيع حجم الحكومة مثلاً سوى دليلٌ على ذلك.

لكن، بين هذا وذاك، ثمّة من يقول إنّ جنبلاط كان ولا يزال وسيبقى أكثر من مجرّد لاعبٍ داخليّ عاديّ، فلما يدلي به من مواقف معانيها ودلالاتها، التي قد تتخطّى بأبعادها الساحة الداخلية وصراعاتها الشكليّة المحدودة.

ووسط كلّ هذه "المعمعة"، يبقى السؤال الأكثر مشروعيّة، والقابل للكثير من التأويلات، هو ذاك الذي طرحه "البيك" نفسها يوماً، وتحوّل إلى شعارٍ يلازمه أينما ذهب، وهو "إلى أين"؟!.