واكب وتبع فوز الرئيس الأميركي ​جو بايدن​ في ​الانتخابات​، وبالتالي عودة الديمقراطيين إلى السلطة في ​البيت الأبيض​، توجه واضح لتعويم مسار التسوية مع العدو الصهيوني، ومحاولة ترميم ما يُسمّى بالدور الأميركي المحايد، لإعادة بعث الحياة من جديد في نهج التفاوض واتفاق اوسلو، وحلّ الدولتين، بعد أن دفنته خطة القرن التي أطلقها الرئيس السابق ​دونالد ترامب​ بالاتفاق مع رئيس وزراء العدو بنيامين ​نتنياهو​، وتجسّدت في نقل ​السفارة الأميركية​ إلى ​القدس​ والاعتراف بها عاصمة موحدة للدولة الصهيونية ​الاستيطان​ية ​العنصرية​، وتكريس الاستيطان والسيطرة الصهيونية في المناطق الاستراتيجية من ​الضفة الغربية​ لا سيما منطقة الأغوار التي تتميّز بمحاذاتها للحدود مع ​الأردن​ وخصوبة أراضيها ووجود ​الثروة المائية​.. وشطب الحقوق الوطنية لشعبنا في ​فلسطين​ وفي المقدمة ​حق العودة​، عبر التوقف عن دعم وكالة ​الأونروا​ لإغاثة وتشغيل ​اللاجئين الفلسطينيين​ والعمل على إلغاء دورها.

لقد قلنا في حينه إنّ الإعلان عن جريمة القرن يشكل نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة من الصراع العربي الصهيوني، نهاية مرحلة ساد فيها، فلسطينياً وعربياً، رهان على ​الولايات المتحدة​ الأميركية كراع ووسيط بين العرب وكيان الاحتلال، ل​تحقيق​ تسوية سياسية، تفضي إلى انسحاب جيش الاحتلال من الأراضي العربية التي احتلها عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية و​قطاع غزة​ وتكون ​القدس الشرقية​ عاصمتها…

اليوم مع مجيء إدارة بايدن عاد الحديث مجدّداً عن إنعاش المفاوضات لكن من دون إلغاء القرارات التي نفذها ترامب بما خص الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بل استئناف المفاوضات على أساس تكريس الأمر الواقع الجديد، والتزام الجانبين “الإسرائيلي” والفلسطيني من الآن وصاعدا بعدم اتخاذ خطوات جديدة تؤثر سلباً على حلّ الدولتين والالتزامات التي نص عليها اتفاق ​أوسلو​.. ولإنعاش هذا النهج التفاوضي وتكريس ما حققه العدو الصهيوني في ظل إدارة ترامب، قرّرت إدارة بايدن ان تغري ​السلطة الفلسطينية​ بإعادة فتح قنصليتها في ​أميركا​، وعودة ​واشنطن​ إلى دفع التزاماتها المالية للسلطة، ووكالة الأونروا مقابل عودتها إلى المفاوضات والتزام تعهّداتها في اتفاق أوسلو…

ماذا تعني العودة إلى المفاوضات، واستئناف السلطة لالتزاماتها ​الأمن​ية مع الاحتلال بموجب اتفاق أوسلو؟

أولاً، المساهمة مجدّداً في ​مساعدة​ إدارة بايدن على العودة إلى مسرحية المفاوضات واتفاق أوسلو، وبالتالي بعث الوهم الكاذب على ما يُسمّى تمايزاً في الموقف الأميركي إزاء الموقف “الإسرائيلي”، من مفهوم حلّ الصراع، والذي لا يعدو كونه خداعاً يمارسه الديمقراطيون في خدمة المشروع الصهيوني بدهاء استعماري.

انّ الرؤية الأميركية هي نفس الرؤية الصهيونية.. وأنّ أميركا مثلها مثل «إسرائيل» لا تختلف عنها في شيء لناحية العداء للعرب وحقوقهم المشروعة في ​فلسطين المحتلة​، وأنّ من يراهن على موقف أميركي للضغط على كيان الاحتلال لتليين مواقفه وجعله يقبل بحلّ وسط، إنما يراهن على حصان خاسر، وأن من يواصل الرهان على هذه الأوهام لن يحصد سوى الخيبة والخسران. لأنه لم يدرك ماذا تعني «إسرائيل» بالنسبة لأميركا، وماذا تعني أميركا بالنسبة لـ «إسرائيل”.

انّ «إسرائيل» إنما هي أداة الاستعمار الغربي الذي زرعها في قلب الوطن العربي كي يمنع وحدة الأمة، ويبقيها تحت سيطرته وهيمنته ليتمكن من مواصلة نهب وسرقة خيراتها.. وهذه هي ​سياسة​ الجمهوريين والديمقراطيين الذين يتناوبون على السلطة في الولايات المتحدة، وإنْ اختلفت أساليبهم.. فأهدافهم الاستعمارية واحدة…

ثانياً، انّ العودة إلى المفاوضات بعد كلّ ما حصل، إنما سيعني مساعدة واشنطن على إحياء ورقة أساسية كان يستخدمها الأميركي والصهيوني، وهي توزيع الأدوار لإبقاء ​القيادة​ الفلسطينية والأنظمة العربية مخدوعين بالموقف الأميركي وبالرهان على التسوية، ففي حين كان الموقف الصهيوني متصلّباً في كلّ مراحل المفاوضات يرفض التراجع عن مخططاته وأطماعه في ابتلاع وتهويد كلّ أرض فلسطين ومقدّساتها، وصولاً إلى إقامة الهيكل المزعوم في ​المسجد الأقصى​ وتهويده، كانت واشنطن تناور وتمارس دور خداع الوفد الفلسطيني المفاوض، فتعمل حيناً على إقناعه بالاستمرار في الرهان على المفاوضات، وحيناً آخر بالضغط عليه لتقديم المزيد من التنازلات، بما يمكن «إسرائيل» من فرض وتكريس الوقائع على الأرض.. وقد نجحت واشنطن في بيع الأوهام للوفد الفلسطيني والحكام العرب، الذين اقتنعوا بأنّ أوراق الحلّ بيد أميركا، ولذلك ارتموا في أحضانها، وكانوا يروّجون لذلك… واليوم تريد إدارة بايدن إنعاش هذا المسار من جديد لأنه يصبّ في خدمة “إسرائيل” و​السياسة​ الأميركية الاستعمارية.

ثالثاً، تدرك إدارة بايدن انّ إعلان موت أوسلو يعني سقوطاً لأيّ أمل بإنعاش المفاوضات وحلّ الدولتين، وهذا المآل لن يكون في مصلحة “إسرائيل” والسياسة الأميركية.. وإنما يشكل خدمة لنضال ​الشعب الفلسطيني​، للأسباب التالية:

1 ـ استمرار الصراع وتأجّجه، وجعل خيار المقاومة المسلحة هو الخيار الوحيد السائد فلسطينياً، وبالتالي توحّد الشعب الفلسطيني وفصائله المختلفة حول خيار الصمود و​المقاومة الشعبية​ والمسلحة، في ظلّ تنامي قوة محور حلف المقاومة في المنطقة، الأمر الذي لا يصبّ في مصلحة أمن واستقرار الكيان الصهيوني ويجعله عرضة لحرب استنزاف مديدة تهدّد وجوده الاحتلالي، من قبل ​المقاومة الفلسطينية​ المدعومة بقوى المقاومة في المنطقة.

2 ـ إضعاف التوجه والحلم الصهيوني الأميركي لتشريع وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، واندماجه فيها وتربّعه على عرشها، فهذا الحلم الصهيوني التي تحاول خطة القرن بلوغه عبر تجاهل وجود الشعب الفلسطيني، وتصفية كامل حقوقه، وإلغاء حلّ الدولتين، لن يتحقق بنظر إدارة بايدن، عبر هذا الطريق، بل سيؤدي إلى حشر الأنظمة التي وقّعت اتفاقيات صلح واعتراف مع الكيان “الإسرائيلي”، وتعزيز اتجاه ​الدول العربية​ التي ترفض هذا المسار وتواصل دعم المقاومة الفلسطينية، لا سيما سورية و​العراق​ و​اليمن​ و​لبنان​ و​الجزائر​ إلخ…

3 ـ إسقاط حلّ الدولتين سوف يحوّل دولة الاحتلال إلى دولة تقوم على نظام التمييز والفصل العنصري، مما سيؤدّي إلى تسعير الصراع على أرض فلسطين على غرار ما كان سائداً في ​جنوب أفريقيا​، وبالتالي جعل “إسرائيل” تواجه انتقادات وتنديداً واحجتاجات واسعة على الصعيد الدولي وصولاً إلى فرض عزلة دولية على “إسرائيل” لانتهاجها سياسة الفصل العنصري، في حين سيحظى النضال الوطني للفلسطينيين بالمزيد من الدعم والتأييد في ظلّ عودة التضامن الشعبي معه، عربياً وإسلامياً ودولياً… وفي مثل هذه الحالة ستكون أميركا في وضع حرج إذا ما واصلت دعم وتغطية السياسات الصهيونية العنصرية…

4 ـ إسقاط ثقافة التسوية نهائياً من أذهان الجماهير العربية، وإعادة بعث وترسيخ ثقافة المقاومة كخيار وحيد لتحرير الأرض واستعادة الحقوق.

هذه الحقيقة التي حاولت الولايات المتحدة والأنظمة العربية الرجعية محوها من أذهان الجماهير العربية من خلال الترويج لخيار التسوية وإقامة العلاقات مع كيان العدو.. إنما تصبّ في مصلحة نهج محور المقاومة الذي نجح في تحقيق ما عجز عن تحقيقه خيار المفاوضات والرهان على الحلول السلمية بديلاً عن سلوك خيار المقاومة الشعبية والمسلحة… حيث تمّ تحرير ​جنوب لبنان​ ومن ثم قطاع غزة بالمقاومة المسلحة والشعبية بلا قيد أو شرط.

هذه التداعيات المحتملة هي التي دفعت الخبراء الأميركيين إلى التحذير من خطة ترامب، وانه ستكون لها نتائج عكسية، إذ تبعد وتعقد من تحقيق ​السلام​ بين الأطراف، خاصة مع تجاهلها مبدأ حلّ الدولتين، فهي برأيهم «تهدّد ديمقراطية إسرائيل» وتضرّ «بمصداقية الولايات المتحدة» وتقود إلى «انعدام فرص خلق دولة فلسطينية…”

كما رأى المعلقون الصهاينة انّ الاستمرار في خطة القرن يقود إلى خسارة «إسرائيل» المكتسبات التي يحققها لها استمرار المحافظة على اتفاق أوسلو، بعد قرار ​محمود عباس​ الردّ على الصفقة بقطع كلّ العلاقات مع «إسرائيل» وأميركا بما فيها التنسيق الأمني.. واحتمالات عودة «إسرائيل» إلى تحمّل كلفة احتلالها الذي جعله أوسلو أرخص احتلال في التاريخ…

انطلاقاً من كلّ ما تقدّم يمكن القول إنّ غاية إدارة بايدن من إعادة إحياء المفاوضات إنما هو إنعاش أوسلو، وإعادة بعث الرهان على التسوية بما يقطع الطريق على تعزيز الالتفاف حول خيار المقاومة المسلحة والشعبية، ويخدم كيان الاحتلال، في مخططه لتكريس الأمر الواقع الاحتلالي الاستيطاني وإتاحة الفرصة لدفع المزيد من الأنظمة العربية لإقامة اتفاقيات مع “إسرائيل”.

ولهذا فإنّ مصلحة نضال شعبنا في فلسطين المحتلة، وقواه الوطنية، إنما تكمن في قطع الطريق على هذه الخطة الأميركية، من خلال توحيد الموقف الفلسطيني حول خيار المقاومة الشعبية والمسلحة من ناحية، والتمسك بالحقوق الوطنية الفلسطينية ورفض التفريط فيها وفي مقدمها حق العودة من ناحية ثانية.. لا سيما أنّ اتفاق أوسلو الذي دفنه الاحتلال لم يعد يريد منه سوى توفير الغطاء لمواصلة سياساته الاستيطانية وتكريس الأمر الواقع الاحتلالي من جهة، واستمرار السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الصهيونية لملاحقة واعتقال المقاومين الذين يستمرّون في مهاجهة قوات الاحتلال والمستوطنين الصهاينة، والحؤول دون حصول هذه العمليات الفدائية من جهة ثانية.