يُحكى أنَّ فيلسوفًا زارَ مّرةً القدِّيسَ أفرام السّرياني، بعدَ أن سَمِعَ عنه الكَثير، وكان القِدّيسُ قد ذاعَ صِيتُهُ بِحياتِهِ النُّسكيَّةِ مِن جِهةٍ، وبِبَلاغتِهِ وكِتاباتِهِ للشِّعرِ والمُوسيقى مِن جهَةٍ أُخرى.

اللّقاءُ بينَهما شَكَّلَ أُمثُولَةً لاهُوتِيّةً، فقد جَمعَ بينَ الطَّرافَةِ ومَا يَنتَظِرُنا بعدَ الحَياةِ الأرضِيّة.

فَورَ بُلوغِ الفَيلسوفِ مكانَ وجودِ القِدّيسِ، ظهَرت عليهِ علاماتُ التَّعَجُّب، فَقامَ بِعَفَويَّةٍ مُطلَقة يَدُورُ في أَرجاءِ مَسكَنِ الأَخيرِ، ويَسألُه وهو في قِمَّة الدَّهشة: أينَ هِيَ كُتُبُك، أين هي مَكتَبَتُك؟ لقد خُيِّلَ إليَّ أنّني سأكُونُ هنا وَسطَ جِبالٍ مِنَ الكُتُبِ والمَراجِع؟ فَأينَ هِي؟.

فما كان مِن القِدّيسِ أفرام إلاّ أن أبتَسَمَ وطافَ يَدُورُ حَولَ الفَيلسوفِ وهُوَ يقول له: وأنتَ أيضًا أَينَ هي كتبُكَ ومراجِعُكَ، فَإنّي لا أَرى شَيئًا مِنها؟.

فأجَابَهُ الفَيلسُوفُ: أنا هُنا فِي زِيارَةٍ، ومَكانُ إقامتي لَيسَ هُنا.

عِندَها قَالَ له القِدِّيسُ: وأنا كَذَلِكَ في زِيارَةٍ. فمَكانُ إقَامَتي فَوقُ مِن حَيثُ أتى مُخَلِّصُنا. هُوَ نَزَلَ ليَصطَحِبَنا مَعَه إلى العُلى. نَحنُ مُواطِنو السَّماء، وحَياتُنا عَلى الأَرضِ رِحلةٌ تَتخَلَّلُها مَحَطَّاتٌ عِدَّةٌ نَزورُها لِنَعودَ ونَنتَقِلَ إلى أُخرى، لِنبلُغَ في نِهايَةِ المَطافِ انتِهاءَ رِحلَتِنا الأَرضِيَّةِ، وتَبدأُ بِالتَّالِي رِحلتُنا الأَبَدِيَّة.

وهذا تَمامًا هُوَ زَمنُ "التّريودِي" الّذي نَبدأُهُ مَعَ أحَدِ الفَرِّيسيّ والعَشَّارِ لِنبلُغَ القِيامَةَ المَجِيدَة. فإنْ تُبنَا تَوبَةً صَادِقَةً نَقُومُ مَعَ إلهِنَا مِنَ القَبر، وإن تَمَسَّكنا بِأهوائِنا المَعيبَةِ نَبقى نُزُلاءَ دَركَاتِ الجَحيم.

فَهذَا الزَّمنُ الخُشوعِيّ بِامتِيازٍ، نَفتَتِحُهُ كُلَّ سَنةٍ بِهذا المَثَلِ الّذي رَواهُ يَسوعُ لِنَأخُذَ مِنهُ العِبَارَةَ لِخَلاصِنا.

شَخصٌ مُتشَامِخٌ ومُتَكَبِّرٌ إلى أَقصَى الحُدُودِ يَعتَبِرُ نَفسَهُ بَارًّا، وأفضَلَ مِنَ الآخَرِينَ لِمُجرَّدِ أنَّهُ يُطَبِّقُ الشَّريعةَ بِأصوامِهِ، ويَدفَعُ العِشرَ مِن أَموالِه. وشَخْصٌ آخَرُ مُنسَحِقٌ يُدرِكُ تَمامَ الإدرَاكِ أنَّ أَعمالَهُ السَّيِّئَةَ جَعلَتْ مِنهُ إنسانًا غَيرَ مُستَحِقٍّ أن يَنظُرَ إلى السَّماءِ، فانحَنى يَبكِي خَطايَاهُ ويَرجُو رَحمَةَ اللهِ عَلَيه.

الأوَّلُ رَجَعَ مَرفُوضًا مِنَ اللهِ والثّاني مُبرَّرًا مِنه.

إنّها صُورةٌ تَضعُنا أَمامَ مِفصَلٍ أَساسيّ في خِلالِ رِحلتِنَا هُنا. فنَحنُ مُعرَّضونَ في كُلِّ لَحظَةٍ أن نَتشامَخَ مِثلَ الفَرِّيسيّ، ونُؤلِّهَ أنفُسَنا ولا نَحذُوَ حَذوَ العَشّارِ التّائب.

يُجمِعُ عِلمُ الاجتِماعِ على أنَّ مَرضَ الأمراضِ تَمجِيدُ الذَّاتِ والتَّشاوُفُ والكِبريَاء. وهذا مَا أَكَّدَ علَيهِ اللّاهوتُ في أُولى صَفَحاتِ الكِتابِ المُقَدَّسِ مُنذُ زَمَنٍ بَعيد. أَصحابُ هَذا المَرَضِ لا يَضُرُّونَ أنفسهم فحسب بل يدمّرون مجتمعات بأسرها.

نَيرون، مَثلًا، صَنَعَ لِنفسِهِ تِمثالًا ليقولُ أنا الشَّمسُ فاعبُدُوني.

هذا المَرضُ العُضالُ يَجعَلُ المُصابَ بهِ يَسعى أن يُؤلِّهَ نفسَه. ومَن يجرؤ على القولِ "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ"؟ إلّا الرَّبُّ نفسُه(يوحنا ٤٦:٨).

لِذا كُلُّنا مَرضى ونحتاجُ إلى عَملِيَّةِ تَطهيرٍ وتَنقِيةٍ لاقتِلاعِ أشوَاكِ الخَطِيئَةِ المُتَسَلِّلَةِ إلى نُفوسِنا، والّتي هِي أصلًا غَريبةٌ عن طَبيعتِنا، لأنَّ اللهَ خَلَقَنا عَلى صُورَتِه.

وخيرُ مُستَشفىً هُنا هُوَ الكَنيسَةُ كما يَقولُ القِدِّيسُ يُوحنّا الذَّهبيّ الفَم.

لِذا هَذا الزَّمنُ "التّريودي" البَهيُّ بِصَلواتِهِ وتَراتِيلِهِ وألحَانِهِ يُساعِدُ الإنسانَ على التَّوبَةِ الحَقِيقِيَّةِ، ويَجعلُنا نَفهَمُ كم أَحبَّنا اللهُ وفَدَى نَفسَهُ مِن أَجلِنا. ومَنِ اكتَشَفَ هذا العِشقَ مَجَّدَ تَدبيرَ اللهِ الخَلاصِيّ، وانحَنى أمامَ صَلبِهِ الطَّوعِيّ لِأجلِنا.

إنَّهُ عِشقٌ إلهِيٌّ لا مُتنَاهٍ لِلبَشرِيَّةِ جَمعَاءَ، دُونَ أيّ تَمييزٍ أو تَخصِيص. وهَذا مَا جَعلَ الآباءَ القِدّيسينَ يَقولونَ إنَّها لَخسارةٌ كُبرى ألّا يَكتَشِفَ كُلُّ إنسانٍ هَذا العِشق. وخسارَةٌ أن يَمضِيَ العُمرُ دون أن يَتعَرَّفَ المَرءُ على الكَلِمَةِ الإلهِيَّةِ الّذي صَارَ إنسانًا، ألا وهُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح.

كَثِيرُونَ نَاشَدُوه ولَم يَعرِفُوه، ومُطرِبُونَ غَنَّوا لَهُ ولَم يُدرِكُوه، ومُلَحِّنُونَ كِبارٌ نَظَمُوا لَهُ ألحَانًا مِن دُونِ أن يُسَمُّوهُ، وفَلاسِفَةٌ كُثُرُ بَحثوا عَنهُ ولم يَبلُغُوه، وشُعراءُ كِبارٌ كَتَبُوا لهُ أشعَارًا ولَم يَكتَشِفُوهُ، وكُتَّابٌ وَصَفُوهُ بِجَمالِ الكَلامِ بَحثًا عَنهُ لِلُقيَاهُ. فَكُلُّ بَحثٍ عَنِ الجَمالِ الحَقِيقيِّ هُوَ بَحثٌ "عَنه".

القِدّيسُ "يُوحنّا كرونشتادت" كَتَبَ في يَومِيَّاتِهِ "حَياتِي في المَسيح Ma vie en Christ": "إنّي أرى يَسوعَ في قَلبِ كُلِّ إنسانٍ، إنَّهُ يُريدَ أن يَعرِفَهُ كُلُّ النَّاسِ لِيَغلِبُوا كُلَّ تَجرِبَةٍ تُهلِكُهُم، ولِتَضطَّرِمَ قُلوبُهُم فَرَحًا ورَجَاء.

القِدّيسُ يُوستينُوس الشّهيد (١٦٠م) قَالَها بِالفَمِ المَلآن: "كُلُّ جَمالٍ نَاقِصٌ مِن دُونِ المَسيح، وكُلُّ عِشقٍ لا يَكتَمِلُ إلّا بِالمَسيح.

ولَكن يَبقى عَلَينا أن نَسلُكَ دَربَ الرَّبِّ، ومَسيرَةُ الألفِ مِيلٍ تَبدأُ بِخُطوَة. وهُنا يَحضُرُني قَولُ الشَّاعِرِ "جلال الدّين الرّومي (١٢٠٧- ١٢٧٣م) "عِندما تُقَرِّرُ أن تَبدأَ الرِّحلَةَ، سَيظهَرُ لكَ الطَّريق".

فَعِندمَا نَعقِدُ النيَّةَ سنرى الرَّبَّ يَنتَظِرُنا فَاتِحًا لَنا ذِراعَيهِ، مَهمَا كَثُرَت أوساخُنا وعَظُمَت سَقطاتُنا، لأنَّنا أبناؤهُ مَهما تَغرَّبنا عَنه.

هذا الشَّاعِرَ تُرجِمت كُتُبُه إلى لُغاتٍ عَديدةٍ في العَالَم، واحتلَّت مَراتِبَ أُولى بين الكُتُبِ في الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَميركِيَّة مَثلًا. ومَا قد يَغفَلُ عَنهُ كَثيرُونَ هُوَ أنَّ بَحثَ هَذا الشَّاعِرِ وغَيرِه، مَا هُوَ إلّا بَحثٌ عَنِ الإلهِ المُتَجَسِّدِ لِخَلاصِنا. إنَّهُ تَوقٌ لِلعُلى والكَمال.

وهُنا أُنهي أيضًا بِقَولَين للشَّاعِرِ نفسِه: الأوَّلُ "مَنْ لا يَركُضُ إلى فِتنَةِ العِشقِ يَمشي طِريقًا لا شَيءَ فِيهِ حَيٌّ". فمَن يَقرأُ هذا القَولَ على ضَوءِ عِشقِ الرَّبِّ لَنا، يَجِدُ نَفسَهُ يُنشِدُ معَ القِدِّيسِ "غريغوريوس اللّاهُوتي"(٣٢٩- ٣٩٠م): "عِشقي مَصلوبٌ وعِشقِي قَائِم".

وَالقَولُ الثّاني "إنَّكَ قد رَأيتَ الصُّورَةَ ولَكِنَّكَ أغفَلتَ المَعنى". وهَذا أيَضًا يَنطَبِقُ على مَن يَسيرُ رِحلَةَ التّريودي بِالجَسَدِ مِن دُونِ الرُّوح، وبِالشِّفاهِ مِن دُونِ القَلب، فتُصبِحُ رِحلةُ العُمرِ عِندَهُ فَراغًا وجَمادا.

إلى الربّ نطلب.