من عجائب ​السياسة​ ال​لبنان​ية أنك لو سألت أحداً من السياسيين في ​الدولة​ من رأس الهرم إلى أصغر موظف يتعاطى الشأن السياسي، متى ستتألف الحكومة، لقال: لا أعرف.. العلم عند الله، ويستطرد: يبدو أن الأمور مقفلة و«ما في حكومة في وقت قريب»، من دون أن يعطيك ما يُبرّر قوله أو أي معطى يقنعك فيه. وإذا جلست بينك وبين نفسك تسأل: هل صحيح ان هذا المسؤول أو ذاك لا يعرف ما إذا كانت ستتألف الحكومة أم لا، سرعان ما يأتيك الجواب من عندياتك.. إن كلام هؤلاء صحيح لأن مسألة الحل والربط ليست بيد اللبنانيين بل هي خلف البحار، هكذا كان الوضع السياسي في لبنان منذ الانتداب، وبقي حتى ​الاستقلال​ واستمر الى يومنا هذا، دائماً العامل الإقليمي أو الدولي يغلب العامل الداخلي في أي استحقاق كان.

صحيح أن للقوى السياسية دور ما في هذا المجال، لكن هذا الدور لطالما كان يتماهى مع مواقف هذه الجهة الدولية أو تلك، ومهما يكن هذا الدور فـإن كلمة الفصل دائماً تبقى للتسويات وتبادل المصالح الإقليمية والدولية.

ورُب سائل: هل المرجعيات السياسية والنيابية والحزبية والدينية التي نصبت نفسها على عامة النّاس على انها ولية أمرهم، لم تدرك بعد حجم المخاطر التي تتهدّد البلد، ومنسوب ​الفقر​ الذي ارتفع بشكل كبير بين شرائح ​المجتمع اللبناني​، وكذلك حجم الذين أصبحوا عاطلين عن العمل ويتهدد أسرهم الجوع؟ الجواب بكل صراحة ووضوح ان هذه المرجعيات على اختلافها لا تضع أحوال وأمور النّاس في أجندتها، اللهم إلا مع اقتراب ​الانتخابات النيابية​، حيث يصول ويجول المرشح لهذا المقعد أو ذاك على أماكن الافراح والاتراح مبيناً الوجه الحسن الذي يُخفي خلفه وجه آخر هو المصلحة الذاتية والنفعية لا أكثر ولا أقل.

لقد دخل ​تكليف​ الرئيس ​سعد الحريري​ ​تأليف الحكومة​ شهره الخامس، ولم تفض كل الاجتماعات التي عقدها مع ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​ إلى أي نتيجة، لا بل إن ما دار من نقاشات وطروحات في هذه الاجتماعات زاد الأمور تعقيداً، كما ان الجولات التي يقوم بها الرئيس المكلف باتجاه الشرق والغرب لم تحرز تقدماً ولو قيد أنملة على مستوى تأليف الحكومة، مما يبعث على الاعتقاد بأن أزمة ​تشكيل الحكومة​ ما تزال مستعصية، وان الشروط التي توضع من هذه الجهة أو تلك لإتمام عملية التأليف، تزيد الطين بلة وتوسّع نطاق الإشتباك السياسي ليشمل أطرافاً سياسية غير معنية مباشرة بالتأليف خصوصاً وأن هناك من أصبح يهمس في الصالونات السياسية الضيقة بأن أزمة التأليف من أسبابها الخفية ​الانتخابات الرئاسية​ المقبلة، بعد ان كان هؤلاء يربطون ما يجري بالانتخابات الرئاسية الأميركية التي انجزت من دون أن يكون لها أدنى تأثير على الواقع السياسي اللبناني.

هذا المشهد السياسي «العنكبوتي» يُؤكّد بأن مسألة حل عقدة التأليف لن يكون قريباً، حيث إن ما من جهة سياسية لبنانية تملك أي تُصوّر من الممكن أن تجمع عليه كل القوى السياسية يؤدي في نهاية المطاف إلى ولادة الحكومة وبالتالي الولوج في عملية إصلاحات تعيد الثقة الدولية بلبنان وتساهم في رصد الأموال والمساعدات لإنقاذ البلد من حالة الاهتراء التي وصل اليها على مختلف الصعد السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية.

في تقدير أوساط متابعة أن الرئيس المكلف وقف في اليومين الماضيين خلال وجوده في الخارج أمام بعض الطروحات التي أطلقت إما عن طريق رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه برّي​، أو في الخطاب الأخير للأمين العام ل​حزب الله​ السيّد حسن نصر الله الذي أعلن بما يشبه المخرج الذي يطمئن كل الأطراف المعنية في عملية التأليف حيث لا ثلث ضامناً لأحد، وهو ربما يعود وينطلق بمروحة من ​الاتصالات​ أساسها الأفكار والطروحات التي أعلن عنها في غيابه بعد أن تيقن بما لا يدعو إلى الشك استحالة اتفاقه مع رئيس الجمهورية على الصيغة التي كشف عنها في خطابه الاخير في ذكرى الرابع عشر من شباط، فإذا رأى الرئيس المكلف أن المناخات ​مساعدة​ للتوصل إلى صيغة توافقية بين مختلف الافرقاء وعلى وجه الخصوص بينه وبين رئيس الجمهورية فإنه سيكمل في حركته داخلياً وخارجياً، وفي حال ارتأى أن تحركه الجديد أمامه عقبات وصعوبات تجعل الأمور تراوح مكانها سينكفى عن ذلك وينتظر علَّ وعسى المناخات في الداخل والخارج تؤدي إلى احداث متغيرات في الموقف وتسهّل الشروع في وضع توليفة حكومية ربما تكون أكبر من حيث العدد تضع حداً للأزمة الحكومية التي تنعكس سلباً على مجمل الوضع اللبناني. ولا تستبعد هذه الأوساط إعادة إحياء طرح توسعة الحكومة وان كان البعض في الداخل والخارج لا يحبذ الحكومات الفضفاضة وأنه يفضل حكومة مصغرة يكون في مقدورها قرع باب الإصلاحات والدخول منه في معركة حقيقية لا مهادنة فيها لاستئصال ​الفساد​ ووضع حدّ للهدر، لأنها بذلك تعيد ثقة ​المجتمع الدولي​ بلبنان وتدفعه في اتجاه فتح الخزائن وتقديم الدعم المالي والمساعدات المختلفة للحكومة اللبنانية لتمكينها من وقف التدهور الحاصل وإعادة الوضعين الاقتصادي والنقدي إلى الطريق الصحيح، وتخلص إلى التأكيد بأن عملية التأليف لن تكون في قبضة اليد في وقت قريب، لأن ما يجري على مستوى الاقليم ينعكس تصلباً في المواقف داخل لبنان، وفي حال حصل الاتفاق الإقليمي على المواضيع المختلف عليها، فإن كل الشروط من أي طرف بشأن التأليف تسقط وتأخذ الأمور مسارها الطبيعي.