قد لا تكون "فضائح" تلقّي مسؤولين أو محسوبين عليهم ​اللقاح​ المضاد لكورونا قبل غيرهم من الناس، "حكرًا" على ​لبنان​، فقبل تلقي نواب لبنانيّين اللقاح "بالواسطة"، وعلى طريقة "الدليفري" في مبنى البرلمان، شهدت دول عدّة "فضائح" مماثلة، من حيث الشكل على الأقلّ.

ففي ​الأرجنتين​ مثلاً، ساعد ​وزير الصحة​ أصدقاء له في الحصول على التطعيم قبل دورهم، وكُشِفت "الفضيحة" بعدما أعلن صحافيّ أنه بفضل صداقته الطويلة مع وزير الصحة، تمكن من الحصول على لقاح في مكتبه قبل بقية السكان.

وشهدت ​البيرو​ أيضًا فضيحة مشابهة، بعد انتشار ​أخبار​ عن تلقيح 487 شخصًا بسرية تامة بينهم رئيس سابق ووزيران وموظفون حكوميون وأساتذة جامعيون ورجال أعمال و​السفير البابوي​ قبل حتى بدء حملة التلقيح.

لكنّ الفارق الجوهريّ يتمثل في طريقة التعاطي مع "الفضيحة"، ففي الأرجنتين، اضطر وزير الصحة إلى ال​استقالة​، نزولاً عند طلب رئيس البلاد، فيما دفع الغضب الشعبي في البيرو إلى استقالة وزيرتي الصحة والخارجية، كما فُتِح "​تحقيق​" بالحادث.

أما في لبنان، فلم تدفع "الفضيحة" أحدًا من النواب أو المسؤولين إلى تلاوة "فعل الندامة"، بل على العكس من ذلك، خرج من "يمنّن" اللبنانيين ويستقوي عليهم، في ظلّ صمتٍ مطبَق، وربما مريب، تسلّحت به ​وزارة الصحة​، وهي المسؤولة الأولى معنويًا وأخلاقيًا على الأقلّ.

هل يُلام النواب؟

يقلّل البعض من وقع "الفضيحة" التي أحدثها تلقي عدد من النواب للقاحات كورونا قبل عامة الناس، وخارج الأصول المتّبَعة، وحتى من دون الحاجة إلى تسجيل الأسماء في المنصّة، وعلى طريقة "الدليفري"، حتى لا يتكبّد "ممثلو الشعب" عناء ومشقة الذهاب إلى مراكز التلقيح المُعلَنة، فيصبحون بذلك "متساوين" مع الشعب الذي انتدبهم لتمثيله.

رغم كلّ "السلبيّات" المهيمنة على كلّ ما ورد أعلاه، يجد البعض "تبريرات" لهؤلاء النواب، أو بعضهم على الأقلّ، باعتبار أنّهم سجّلوا أسماءهم مثل غيرهم من اللبنانيين على المنصّة، وانتظروا اتصالاً من المعنيّين (مع افتراض حسن النية وعدم تشغيل المحسوبيات)، إلى أن أتاهم "التبليغ" بأنّ دورهم قد حان، وبأنّهم سيُلقَّحون في البرلمان، فكان ما كان، علمًا أنّ بعضهم لا يستوفي الشروط، ولم يبلغ الخامسة والسبعين من العمر.

قد لا يُلام النواب فعليًا في حال أنّ هذا السيناريو هو الذي حصل، ولو أنّه أفلاطوني ومثالي ولا يشبه أداءهم ومقاربتهم بشيء، بعدما كرّسوا مبدأ "الزبائنية السياسية" وحوّلوه من مجرّد شعار إلى أسلوب حياة، وإن كانوا يُلامون في المقابل على عدم طرح الأسئلة الجدية عن سبب "تمييزهم" عن غيرهم، وعن سبب حصولهم على "أولوية" على حساب مُسنّين ومرضى لا يزالون ينتظرون دورهم على أحرّ من الجمر.

وإذا كان النواب يتحمّلون جزءًا وافرًا من المسؤولية "الأخلاقية" عمّا حصل، استنادًا إلى ما تقدّم، فإنّ مسؤولية وزارة الصحة تبقى الأكبر، باعتبارها وحدها من تجيز نقل اللقاحات من مركز إلى آخر، علمًا أنّ "الحملة-الفضيحة" جاءت بعد ساعات، لا أيام، على تصريح لوزير الصحة في ​حكومة​ ​تصريف الأعمال​ ​حمد حسن​ تمنى فيه "عدم تجاوز المعايير بتمرير بعض المحسوبيات من قبل البعض"، وهو ما يؤكد عليه أصلاً منذ اليوم الأول لانطلاق الحملة.

المشكلة في "الذهنية"!

عمومًا، قد لا يكون الأساس الآن هو تحميل أو توزيع المسؤوليات، باعتبار أنّ مثل هذا الأمر يبقى من مسؤولية "التحقيق"، إن شعر المعنيّون في لبنان بضرورة فتحه أصلاً، رغم أنّ ​البنك الدولي​ كان أول المبادرين إلى "استهجان" ما حصل، وصولاً إلى التلويح بوقف دعم حملات التلقيح، بما يهدّد بحرمان شريحة واسعة من اللبنانيين، المحتاجين أكثر من النواب، من حقّها البديهيّ في التطعيم.

إلا أنّ المشكلة التي تتخطى كلّ ما سبق تتمثّل في "الذهنية" التي يصرّ بعض اللبنانيين على التعاطي بها مع مختلف الأحداث، على طريقة "القفز إلى الأمام"، بعيدًا عن أيّ تحمّل للمسؤولية، ولو من باب رفع العتب، بل ذهاب بعض النواب "الشركاء في الفضيحة"، إن جاز التعبير، إلى زيادة الطين بلة، بتصريحات أقلّ ما يقال فيها إنها "استفزازية"، وغير مقبولة لا في الشكل ولا في المضمون، ومن الناحية الأخلاقية بالدرجة الأولى.

ينطبق ذلك مثلاً على تصريح أحد النواب الذي اختار "تصنيف" نفسه من المستحقين لا لشيء، إلا لكونه "لبنانيًا أكثر من غيره"، على حدّ ما قال في لحظة "انفعال" ربما، لكنّها لا تجيز له أن يقول ما قاله، ولا ليصرّ عليه بالدعوة "ليفهموها كما يرغبون". وينطبق أكثر على "استنفار" أحد النواب الآخرين، لحدّ طرح سؤال "بريء" في الشكل، "مشبوه" في المضمون، عمّا إذا كان هناك من "أولويات" أكثر من النواب، بما أنّه "صار ميّت منن 2 ومنصاب أكتر من 25".

إزاء ذلك، قد يكون من المفيد تذكير النائب الكريم وزملائه بأنّ لبنان برمّته يسجّل يوميًا مئات، بل آلاف ​الإصابات​، وعشرات ​حالات​ الوفاة، التي بلغت مستويات قياسية، كما قد يكون من المجدي تذكيره أنّ القطاع الطبي مثلاً، الذي كان ينبغي أن يُمنَح الأولوية المطلقة، سجّل آلاف الإصابات، وخسر نحو 30 طبيبًا نتيجة إصابتهم ب​فيروس كورونا​ حتى اليوم، وهو ما يفرض على النواب التمسّك بتطبيق القانون كما هو، وعلى نفسهم قبل الآخرين.

أين المفاجأة؟

في مطلق الأحوال، وبعيدًا عن "الطنّة والرنّة" التي أحدثها خبر تلقي النواب للقاح، فإنّ الأكيد أنّه في الغالِب الأعمّ، لم يكن مفاجئًا لأحد من اللبنانيّين، بل كان متوقَّعًا منذ اليوم الأول لانطلاق حملة التلقيح الوطنيّة، والتي تحوّلت إلى ما يشبه المهرجان.

أكثر من ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ "الفضيحة" التي أعلِنت قد لا تكون الأولى من نوعها، وأنّ "الوساطات" تفعل فِعلها منذ اليوم الأول، على خطّ تصنيف المُستحِقّين، وتحديد "الأولويات"، بناءً على "المحسوبيّات"، ولا شيء غيرها.

لذلك قد يبدو توصيف ما حصل بـ"الفضيحة" مُبالَغًا به لكثيرين، فكيف يكون تلقيح النواب قبل عامة الشعب "فضيحة" في بلدٍ تُعتبَر "الزبائنية السياسية" فيه ثابتةً من ثوابته، ويتعامل معها الناس كما لو أنّها "تحصيل حاصل"، وليست "انتهاكًا" لمنطق دولة المؤسسات.

وكما أنّ الحدث بحدّ ذاته لم يكن مفاجئًا لأحد، فإنّ مروره مرور الكرام لن يفاجئ بدوره أحدًا، في بلدٍ بات يستيقظ وينام على "فضيحة" تشطب سابقتها بكبسة زرّ، فتصبح كأنّها لم تكن، بكلّ بساطة!.