لاقى الخُطاب الذي ألقاه البطريرك الماروني مار بشارة بُطرس ​الراعي​ في ​بكركي​ يوم السبت، والذي جدّد فيه دعوته إلى الحياد وإلى عقد ​مؤتمر​ دَولي لإنقاذ ​لبنان​، مُحفّزًا الناس على "عدم السُكوت" وعلى التصدّي للإنقلاب(1)، ردّات فعل مُتباينة، تراوحت ما بين مُؤيّد بشدّة ومُعارض بشدّة، وما بينهما من مواقف مُؤيّدة جزئيًا أو مُتحفّظة نسبيًا، لكنّ الردّ الأقسى والأكثر خُطورة جاء على لسان المُفتي الجعفري المُمتاز ​الشيخ أحمد قبلان​ الذي رأى أنّ "الحياد في زمن الإحتلال الإسرائيلي وداعش ليس وطنيًا، بل أعتقد أنه ما زال خيانة"(2). فقد ظهّر هذا الردّ إنقسامًا عموديًا بين اللبنانيّين،ونقل الخلافات من ملعب الأحزاب والتيّارات السياسيّة إلى ملعب ​الطوائف​ والمذاهب، الأمر الذي يُنذر بما هو أسوأ!.

لا شكّ أنّ الكثيرين يعتبرون أنّ دعوات ومواقف البطريرك الماروني لن تُغيّر شيئًا في الواقع اللبناني، وهي ستزيد من حجم التوتّر والإنقسامات في لبنان، وستأخذ هذا الشرخ الداخلي من بُعده السياسي، إلى بُعد ديني خطير، لكنّ بحسب المَعلومات المُتوفرة إنّ الكاردينال الراعي لن يتراجع عن مواقفه التي صار يُكرّرها بشكل دَوريّ، على الرغم من ردّات الفعل القاسية بحقّه من قبل بعض الجهات، وبخاصة من جانب الشخصيّات التي تدور في فلك "​حزب الله​"، وعلى الرغم من توظيفها في خدمة حسابات سياسيّة وحزبيّة ضيّقة من قبل جهات أخرى، ترغب بتصفية الحساب مع العهد. والأسباب وراء تشدّد الراعي مُتعدّدة، وأبرزها:

أوّلاً: إنّ البطريركيّة المارونيّة مُقتنعة بأنّ الوضع في لبنان بلغ مرحلة مُتقدّمة جدًا على طريق الإنهيار الكامل والتام، بحيث لم يعد هناك ما يُمكن خسارته عمليًا، مع بلوغ أغلبيّة كبيرة من ​الشعب اللبناني​ مرحلة اليأس الكامل من الأوضاع وسعيها إلى ​الهجرة​ والفرار من لبنان، الأمر الذي يستوجب وضع اليد على الجرح بكل صراحة وشفافيّة، لمُحاولة إنقاذ ما يُمكن إنقاذه قبل فوات الأوان كليًا.

ثانيًا: إنّ البطريركيّة المارونيّة مُقتنعة بأنّ أحد أهمّ الأسباب التي أوصلت لبنان إلى هذا الدرك يتمثّل في دفع لبنان بالقُوّة إلى ​سياسة​ المحاور والصراعات الإقليميّة والدَوليّة، بحيث أنّه بات اليوم يدفع سياسة تورّطه في حروب وفي نزاعات خارجيّة، لم تجلب له سوى العُقوبات والمُقاطعة والعزل، الأمر الذي يستوجب العمل على تصحيح البُوصلة والتشدّد في المُطالبة بالحياد الكامل عن المشاكل الخارجيّة، مع الإحتفاظ بعلاقات لبنان مع الدول الصديقة ومع محيطه الطبيعي.

ثالثًا: إنّ البطريركيّة المارونيّة مُقتنعة بأنّ من بين أهمّ العراقيل التي تحول دون قيام دولة المؤسّسات، هو إضافة إلى ​الفساد​ المُستشري، وعراقيل المُتضرّرين، وجود قوى مُسلّحة غير شرعيّة إلى جانب ​الدولة​، بشكل أدّى إلى ضربة هيبة الدولة وإلى تقليص نُفوذ مؤسّساتها، وإلى تغييب المُساواة بين اللبنانيّين، وإلى جرّ الشعب اللبناني كلّه إلى خيارات تُلبّي مصلحة أقليّة من بينهم، الأمر الذي يستوجب رفع الصوت بشكل دائم لتصحيح هذا الخلل وإلى عدم تغطيته تحت أي ذريعة.

رابعًا: إنّ البطريركيّة المارونيّة مُقتنعة بأنّ الخلل الخطير على مُستوى توازن القوى في الداخل اللبناني، وعدم إستعداد المُمسكين بالقُوّة بالقرار الداخلي، من خلال قوّتهم الذاتية وتحالفاتهم المحليّة والإقليميّة، يجعل من المُستحيل إيجاد الحلول لما يُعاني منه لبنان عن طريق حوار داخلي، الأمر الذي يستوجب مُحاولة لفت إنتباه المُجتمع الدَولي لوضع الكيان اللبناني الميؤوس منه، ومُحاولة تأمين غطاء دَولي له عبر مؤتمر دَولي، قد يرسم خريطة طريق لخروج لبنان من مآسيه.

خامسًا: إنّ البطريركيّة المارونيّة مُقتنعة بأنّ دعوة الناس إلى الهدوء والتأقلم مع الأوضاع لم يعد مُجديًا، وهو سيُؤدّي إلى مزيد من التدهور كما يُظهر الخط البياني التراجعي للأوضاع منذ سنوات طويلة حتى اليوم، الأمر الذي يستوجب حثّ الناس على عدم السُكوت على كل المُوبئات التي من الواجب التصدّي لها، مع الحرص على عدم السماح بإستغلال المواقف المبدئيّة لبكركي والتي تهدف إلى وضع أسس قيام الدولة، لتوظيفها في عمليّة تصفية الحسابات بين الأحزاب والتيّارات والقوى السياسيّة اللبنانيّة المُختلفة.

إشارة إلى أنّ مواقف البطريركيّة المارونيّة الحازمة والجريئة لن تمرّ مُرور الكرام، ليس خلال الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة فحسب، بل على مدى كامل المرحلة المُقبلة، لأنّها تُسلّط ​الضوء​ على قضايا خلافيّة جوهريّة، بعضها قديم وبعضها الآخر جديد، ما يُنذر بأن تكون عرضة للتوظيف في الحملات المُتبادلة على الساحة الداخليّة، في زمن لم تعد فيه الإنقسامات في لبنانمَحصورة بين مُعسكرين أو محورين سياسيّين عريضين، بل صارت مُستفحلة سياسيًا وطائفيًا ومذهبيًا، بحيث صار من الصعب توحّد طرفين إثنين على موقف واحد جامع، والكُل يعتمد مبدأ "الجميع على خطأ إلا أنا"!.

(1) رأى البطريرك الماروني أنّ "خروج الدولة أو قوى لبنانيّة عن سياسة الحياد هو سبب ما نُعاني به"، وتحدّث عن "مواجهة حالة إنقلابيّة"، وحثّ الناس على عدم السُكوت على مجموعة من المطالب، من بينها مثلاً "​السلاح​ غير الشرعي" و"وُجود جيشين في دولة واحدة"، إلخ.

(2) رأى المُفتي قبلان أنّ "تجديد النظام الديمقراطي، يبدأ ب​انتخابات​ نيابيّة شعبيّة بعيدًا من القيد الطائفي"، وأنّ "شرعيّة السلاح مصدره التحرير ومنع العدوان وحماية الوطن، وليس الشعارات والدعايات..."، وقال عن المؤتمر الدَولي "إذا كان بنسخة سايكس بيكو وبلفور وحلف الراغبين، فنحن ضُدّه ولن نفرّط بذرّة من سيادة وقرار لبنان".