اجمع العالم على اعتبار الزيارة التي قام بها قداسة ​البابا فرنسيس​ الى العراق، تاريخية وتحمل الكثير من الدلالات والقيم والرسائل. وفي لبنان، لم يختلف الامر باعتماد هذا التفسير، ولعل الشهادة الابرز كانت نقل وسائل الاعلام اللبنانية كافة، على اختلاف انتماءاتها الحزبية والسياسية و​الطائف​ية، وقائع الزيارة وبشكل مباشر في غالبية الاحيان، في موقف نادر، كما اتفق المسؤولون والمعنيون والمحللون الذثين ينتمون الى كوكبة من الخطوط السياسية المختلفة، على ان هذه الزيارة تحض على السلام والوئام بين الطوائف والمذاهب وبالاخص بين المسيحيين والمسلمين. وبينما كان من المفترض ان تلقى رسالة السلام التي حملها البابا، آذاناً صاغية وتجعل من الاسهل على المسؤولين والمعنيين التخلي عن المصالح الشخصية والافكار التي تسيء الى مصالح الناس والمواطنين في دولهم، اكتفى هؤلاء بإغداق الكلام المعسول على البابا ومبادرته دون ان يقرنوا القول بالفعل. لا يل اكثر من ذلك، اخذ كل طرف يسوّق ايجابيات الزيارة وفقاً لاجندته وافكاره وخطه السياسي، وكأن البابا هو احد المؤيدين له او احد الحلفاء الذين تربطهم به علاقات ومصالح مشتركة.

في الواقع، لم تأت هذه الزيارة عن عبث، وهي في توقيتها، فرضت على الجميع واقعاً يجب مواجهته وعدم التهرب منه او العمل على تأجيله، ويقول بان الوجود المسيحي في الشرق بات على حافة الانقراض، ولا بد من تحرك دولي فاعل في سبيل وضع حد لهذا الخطر المحدق، والذي انتقل من الاضطهاد الدموي بالقتل والسبي، الى الاضطهاد المعنوي والاقتصادي والسياسي عبر التضييق وتقليص النفوذ والشراكة والدور. لم يكتف البابا بالتحذير من هذا الامر، بل عمل على تطويقه عبر تقويض كل ذرائع المنظمات الارهابية التي تتلطى خلف الدين لضرب ​الانسان​ واجترام حياته وعقائده وحقوقه، فعزز التفاهمات مع الطائفة الاسلامية وحاول تقوية المعنويات والثقة لدى المسيحيين في الشرق بأنهم ليسوا متروكين، وان وجودهم هو موضع تقدير ومتابعة دائمة من قبله وسيقوم بكل ما يمكنه كي يبقوا ثابتين في هذا القسم من العالم، وعدم المخاطرة بتغيير هويتهم وشكل هذه المنطقة، لان من شأن ذلك ترسيخ الانقسام الكبير في العالم، ووضع حدود خطيرة لا تقف عند الجغرافيا فقط، بل تتعداها الى الشعوب.

من هنا، كان اختيار العراق لتوجيه هذه الرسالة وهو الذي يحضن نسبة مهمة من المسيحيين الذين تعرضوا للاضطهاد الشنيع بسبب ايمانهم، خصوصاً وان لبنان في هذا الظرف غير قابل لاستقبال مثل هذا الحدث، فما يعيشه اللبنانيون حالياً فريد من نوعه، وهم منقسمون على انفسهم ضمن الطائفة نفسها وخصوصاً لدى المسيحيين، فيما المشكلة معقدة بين الصحية والاقتصادية والمالية والسياسية،... والخطر محدق ليس فقط بالمسيحيين بل بكل الطائف الموجودة على ارض لبنان، ناهيك عن خطورة تواجد ​اللاجئين الفلسطينيين​ على ارضه و​النازحين السوريين​، كما ان بابوين قد زاراه خلال فترة قصيرة، فيما لم يقم اي بابا بزيارة العراق سابقاً.

والرسالة البابوية في العراق، تضمنت كذلك رغبة واضحة بعدم دفع المسيحيين ثمن اي محاولات تهدف الى التقسيم، لان مصيرهم في هذا السيناريو سيكون التشتت في بلاد اخرى، وبداية لمصير مماثل ينتظر اخوانهم في دول اخرى في المنطقة في اسوأ سيناريو قد يتعرض له المسيحي في الشرق منذ وجوده.

لا يمكن للبابا ان يفرض بالقوة آراءه ومواقفه على الدولالكبرى، ولكنه يحظى بمكانة معنوية كافية تخوّله تحويل هذه المواقف الى واقع تماماً كما فعل قبله القديس يوحنا بولس الثاني الذي غيّر وجه الكثير من الدول والمفاهيم التي كانت سائدة، دون ان يطلق اي رصاصة. حمل البابا مشروعه واتى به الى العراق، ومنه الى دول المنطقة، وكله ثقة بأن نسبة نجاحه ستكون كبيرة جداً، وستنعكس على الوجود المسيحي في الشرق ككل.