في 15 آذار 2011، شهدت ​سوريا​ إحتجاجات شعبيّة واسعة ضُدّ نظام الرئيس السُوري بشّار الأسد، وبسرعة توسّعت هذه التحرّكات الشعبيّة غير المَسبوقة، ومن ثم تحوّلت إلى حرب ضاريّة، شاركت فيها دول إقليميّة وعالميّة عدّة، وأسفرت عن سُقوط نحو أربعمئة ألف قتيل ونحو مليوني جريح(1)، وعن نزوح ملايين السوريّين(2). ومنذ عشر سنوات حتى اليوم، لا يزال ​لبنان​ يُعاني من تبعات نزوح أكثر من مليون سوري إلى أرضه، مُسجّلين رسميًا لدى مُفوضيّة الأمم المُتحدة لشؤون ​اللاجئين​، ناهيك عن غير المُسجّلين! فمتى يُعود هؤلاء إلى بلادهم؟.

لا شكّ أنّ الظروف والوقائع الميدانيّة التي تسبّبت بنزوح ملايين السُوريّين إلى دول الجوار، ومنها لبنان، تبدّلت جذريًا اليوم، حيث جرى ​القضاء​ على تنظيم "داعش" الإرهابي بشكل كامل، وإستعاد النظام السُوري أكثر من 75% من مساحة سوريا، بمُساعدة رئيسة من ​روسيا​ التي أمّنت الدعم الجوي إعتبارًا من 30 أيلول 2015، ومن ​إيران​ التي مدّت النظام السُوري ب​السلاح​ وبالمُقاتلين من دول "محور المُمانعة". وبالتالي، لم يعد مفهومًا ولا مُبرّرًا بقاء هذا العدد الضخم من السُوريّين في لبنان، بعد أن صارت قراهم وبلداتهم ومدنهم آمنة، مع الإشارة إلى أن بعض الدول الأوروبيّة التي كانت تستضيف أعدادًا من السُوريّين على أراضيها، بدأت تعمل على إعادة جزء من هؤلاء إلى سوريا، وآخر الأمثلة على هذا التحوّل المبني على تقييم الأوضاع الأمنيّة في سوريا جاء من ​الدانمارك​(3).

إشارة إلى أنّ تجربة العودة الطَوعيّة للنازحين السُوريّين من لبنان إلى سوريا، والتي لعب ​الأمن العام اللبناني​ دورًا رئيسًا فيها بالتنسيق مع السُلطات السُوريّة، لم تنجح، حيث إقتصرت هذه العودة على نحو مئتي ألف سوري فقط على مدى السنوات الأربعة الأخيرة. ولا تزال السُلطة في لبنان تتعامل مع الموضوع بارتجال، في ظلّ إنقسامات عميقة بالرأي، ورفض جهات عدّة التنسيق مع النظام السُوري بغير القنوات المُعتمدة من جانب الأمن العام اللبناني، إلخ. والإنطباع الإيجابي الذي خرج به وزير ​السياحة​ والشؤون الإجتماعيّة في ​الحكومة​ المُستقيلة رمزي مشرفيّة، إثر النقاشات التي أجراها في سوريا أخيرًا بشأن عودة ​النازحين​، لم يخرج عن سياق تصاريح مُتفائلة سابقة لم تترجم على أرض الواقع، بسبب عدم جديّة النظام السُوري بعودتهم، وبفعل عدم رغبة النازحين بالعودة أصلاً!.

والمُشكلة أعمق من مجرّد سوء إدارة من قبل الجانب اللبناني، حيث ليس بسرّ أنّ ملف النازحين السُوريّين هو ورقة تُستخدم على طاولة المُفاوضات الإقليميّة والدَوليّة. وفي هذا السياق، ترفض ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة والكثير من الدول الغربيّة المُساهمة في إعادة إعمار سوريا، طالما أنّ التسوية النهائية للحرب لم تحصل بعد، في حين أنّ المِحور الذي دعم النظام السُوري عسكريًا للصُمود بوجه مُعارضيه، عاجز عن تقديم أيّ أموال تُذكر، ما يجعل العودة المُمكنة نظريًا من الناحية الأمنيّة، صعبة ومُعقّدة من الناحية العملانية في المناطق المُدمّرة.

أكثر من ذلك، صحيح أنّ المدافع و​الصواريخ​ قد هدأت، مع إستثناءات مَحدودة في الزمان والمكان، إلا أنّ الأصحّ أنّ أغلبيّة شرائح المُجتمع السُوري تُعاني حاليًا من الإرتدادات السلبيّة للحرب، على المُستويات ​الإقتصاد​يّة والماليّة والمعيشيّة عُمومًا. وقد إنهارت العملة السُورية ليبلغ سعر صرف ​الدولار​ الأميركي نحو أربعة آلاف ليرة سوريّة حاليًا، مع التذكير أنّ الدولار الواحد كان يُوازي 47 ليرة سُوريّة عند إنطلاق الإحتجاجات ضُدّ الرئيس السُوري قبل عشر سنوات. وبلغت خسائر الإقتصاد السُوري منذ عام 2011 وحتى مطلع العام الحالي 530 مليار دولار، وإرتفع ​الدين العام​ للبلاد لنحو 208% نسبة إلى الناتج المحلّي، الأمر الذي تسبّب بارتفاع نسبة ​البطالة​ إلى أرقام قياسيّة لا تقلّ عن 42%، وبات أكثر من ثلثيّ السُوريّين يعيشون تحت خطّ ​الفقر​.

وبالتالي، إنّ النازح السُوري في لبنان مثلاً، وحتى لوّ سلمنا جدلاً أنّه يستطيع العودة إلى بلاده من دون أيّ خطر على حياته، يُفضّل البقاء حيث هو، طالما أنّه يحصل على مُساعدات ماليّة دَوليّة، وطالما أنه يعمل في لبنان بما يكفيه ليقتات مع عائلته. وهو بالتالي لن يعود ما دامت فرص العمل مُتاحة للسوريّين على حساب اللبنانيّين، وطالما أنّ المُنظّمات الدَوليّة تُواصل مدّ النازحين بالدعم المادّي في أماكن وُجودهم، بدلاً من نقل توزيع هذه المُساعدات إلى الداخل السُوري، وحصرها بالنازحين الذين يعودون إلى ديارهم.

وفي الخلاصة، لا أمل بعودة جديّة وواسعة للنازحين السوريّين إلى بلادهم، لا من لبنان ولا من غيره من دول الجوار، طالما أنّ الحل السياسي النهائي للحرب السُوريّة لم يُولد بعد. وبعد فشل إجتماعات اللجنة الدستوريّة الخاصة بسوريا في ​تحقيق​ أي تقدّم نحو كتابة دُستور جديد، يتجه ​النظام السوري​ لتنظيم إنتخابات رئاسيّة في المُستقبل القريب، حيث سيكون الرئيس بشّار الأسد المُرشّح الجدّي الوحيد، ما يعني فوزه بولاية رئاسيّة رابعة، الأمر الذي يعني تأجيل بتّ ملفّ النازحين على المُستوى الدَولي إلى مرحلة زمنيّة غير مَعلومة. والخشية كبيرة من أن يتمّ في المُستقبل ربط أيّ مُساعدات ماليّة للبنان الذي تنهار قطاعاته المُختلفة بوتيرة مُتسارعة، ببقاء النازحين أو جزء منهم على أرضه!.

ناجي س. البستاني

(1) بحسب الإحصاءات إنّ أكثر من 11 % من إجمالي سُكّان سوريا، قُتلوا أو أصيبوا، علمًا أنّ عدد المَفقودين يبلغ نحو مئة ألف.

(2) وصل عدد النازحين السُوريّين إلى لبنان و​الأردن​ و​تركيا​، إلخ. حتى نهاية العام الماضي 6,7 مليون شخص، ناهيك عن النازحين داخل سوريا!

(3) سحبت الدانمارك أخيرًا تصاريح الإقامة لعدد من السُوريّين، تمهيدًا لإعادتهم إلى بلادهم، بسبب إعتبارها المناطق التي نزحوا منها آمنة.