تعيش المنطقة فترة انتظار قلِق يسبق إعلان الطرفين الأميركي وال​إيران​ي عن التوصل إلى تسوية حول كيفية تفعيل ​الاتفاق النووي​ الذي توصل إليه البلدان إبان ولاية الرئيس ​باراك أوباما​. ومن الطبيعي أن الذهاب إلى التسوية لن يكون نزهة للطرفين، ففي أدبيات التفاوض أن كل طرف يسعى إلى ​تحقيق​ أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل الجلوس على الطاولة، عندها تتم شرعنة هذه المكاسب قبيل إقرارها وليس التفاوض بشأنها.

ما يحصل اليوم أن تحقيق هذه المكاسب يتم وفق استراتيجيتين مختلفتين تمامًا، الأولى أميركية تحكمها العجلة بسبب رغبة الإدارة ​الجديدة​ في الالتزام ببرنامجها الانتخابي في موضوع الملف ​النووي الإيراني​ وتبريد الجبهات الساخنة وتقليص حجم التدخل العسكري المباشر في ​العالم​ وتحديدًا في ​الشرق الأوسط​، وإلا تكون هذه الإدارة نسخة طبق الأصل عن إدارة ​ترامب​ في تعاملها مع هذه الملفات، يضاف إلى ذلك حاجة الإدارة الجديدة للتفرغ لمواجهة الملفات الداخلية وخصوصًا ملفات ​البطالة​ و​الاقتصاد​.

قد يقول البعض أن هذه الاستراتيجية لا تقوم على العجلة لأن تكلفتها ليست من "كيس" ​الولايات المتحدة​ ولا تتطلب أرصدة مرتفعة بالنسبة لها بل ربما تكون مرتفعة بالنسبة لدول المنطقة، لكن يجب التوقف عند خطوتين بارزتين اتخذتهما ​الإدارة الأميركية​ الجديدة بشأن إيران، الأولى ماليّة وتمثلت بالإفراج عن مبلغ 3 مليارات ​دولار​ من الأموال الإيرانية التي كانت مجمدة في ​العراق​ وعُمان و​كوريا الجنوبية​، يعتقد الرئيس الأميركي أنها قد تشكل بطاقة دعوة للطرف الإيراني للجلوس إلى طاولة التفاوض.

وبالتزامن مع هذه الخطوة تغض الإدارة الأميركية النظر عن شحنات ​النفط​ الإيراني التي تصل إلى ​الصين​ و​الهند​ ودول أُخرى على الرغم من قرار الحظر المفروض على تصدير النفط، وما إقدام بعض الشركات العالمية على شراء النفط الإيراني وتعرضها للخطر إلا دليل على شعور هذه الشركات بأن الإدارة الأميركية تغض النظر عن الموضوع، حيث تشير التقارير إلى أن كميات النفط المصدَّر من إيران إلى الصين قد وصلت في كانون الثاني الماضي إلى 2.75 مليون طن، ووصلت في شباط الماضي إلى 3.25 مليون طن مقارنة ب 450 ألف طن في تشرين الأول من العام الماضي.

أما الخطوة الثانية والتي أعادت تذكير الرأي العام العالمي بأن موضوع ​الإرهاب​ وتصنيف الجماعات والدول على أساسه هو موضوع نسبي لا يقوم على معايير عالمية وقانونية وإنسانية موحدة، فقد تم إخراج المقاتلين ​الحوثيين​ الموالين لإيران من قائمة التنظيمات الإرهابية، في خطوة عسكرية لا تقل أهمية عن الخطوة المالية.

إن الخطوة العسكريةتندرج بشكل بديهي في صلب ملف التفاوض وهي أحد الأسباب الموجبة لهذا التفاوض وكل تبرير آخر لا يرقى إلى الدقة وخصوصًا القول بأن هذه الخطوة جاءت بعد تفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن ومن شأنها السماح ل​منظمات الأمم المتحدة​ بتقديم المساعدة لليمنيين القاطنين في مناطق سيطرة الحوثيين، فهذه الأوضاع مستمرة منذ ثماني سنوات على مرأى من العالم كله، و​الحوثيون​ يحاربون ​الحكومة اليمنية​ المدعومة من ​السعودية​، وقبلها من ​الإمارات​ و​البحرين​ وعلى هذا الأساس تم إدراجهم في قائمة التنظيمات الإرهابية في نهاية ولاية ترامب الرئاسية.

بالمقابل فإن الاستراتيجية الإيرانية التي تحكم ملف التفاوض مع ​أميركا​ تتسم بالتشدد وتحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب، اعتُمدَت سابقًا مع إدارة أوباما التي حاولت أن تأتي بالطرف الإيراني إلى طاولة المفاوضات ومعه كل ملفات المنطقة، من ​فلسطين​ إلى ​لبنان​ وسوريا والعراق، وفي حينه أصر المفاوض الإيراني على أن المفاوضات تنحصر فقط بالملف النووي ولا شيء عداه، وحصل له ما أراد.

اليوم يعتمد الطرف الإيراني الاستراتيجية نفسها، لم تنفع معه الخطوتان الأميركيتان، المالية والعسكرية، ففي أعقابهما تصاعدت الهجمات الحوثية على السعودية وتحديدًا على منشآت نفط سعودية كان من نتائجها ارتفاع أسعار النفط في العالم، كما تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية في اليمن، بهدف القول بأن الطرف الإيراني يبقى قادرًا على الإمساك بأوراق القوة التي يمتلكها في ​الخليج​ خلال مرحلة الذهاب إلى المفاوضات، ويرسل من الخليج رسائل تفيد بقدرته على إلحاق الأذى ب​إسرائيل​ مهما تطور مسار تفاوضه مع الإدارة الأميركية، وإن مبدأ المقايضة لن يثمر في هذه المرحلة.

أما في الموضوع الذي يشكل جوهر التفاوض وهو الملف النووي فقد كان الرد الإيراني هو التسريع في تخصيب اليورانيوم على ما أفادت به الوكالة الدولية للطاقة النووية التي ذكرت خلال هذا الأسبوع أن إيران بدأت بتخصيب اليورانيوم بواسطة مجموعة ثالثة من أجهزة طرد مركزية متطورة من نوع IR-2m في منشأة تحت الأرض، وأن مجموعة رابعة من 174 جهاز طرد مركزي بدأ تركيبها، كما يجري العمل على تركيب مجموعة خامسة.

والملاحظ في هذا الشأن أن الدول الغربية لم تعتمد السلوك نفسه الذي كانت تعتمده بعد صدور أي ​تقرير​ للوكالة الدولية، فامتنعت عن إصدار أي إدانة لإيران التي لم ترد على أسئلة المراقبين بشأن بقايا اليورانيوم التي عُثر عليها في منشآت جديدة أُخرى.

أما في الموضوع المالي فتشترط إيران رفع العقوبات كاملة قبل التفكير بالمشاركة في محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، ويُعتقد بأن الإيرانيين يعرفون بأن رفعًا كليًا للعقوبات لن يحصل لكن قد تحصل إيران على التزام أميركي أقل في موضوع العقوبات.

أين يقف الطرف الإسرائيلي؟ إنه يسعى لتزويد الأميركيين بمعلومات عن الملف النووي الإيراني، وهي معلومات هادفة لدفع الطرف الأميركي إلى التشدد أكثر، وعينه على الخليج.أما الساحات الأخرى، ومنها لبنان، فما عليها سوى الانتظار.