في ظلّ الانسداد السياسيّ الذي تشهده البلاد، وفشل الوساطة الفرنسيّة في ​تحقيق​ أيّ خرقٍ يمكن ​البناء​ عليه، سُجّل خلال الأيام القليلة الماضية حراك عربيّ مستجدّ، رُصِدت على خطه زيارتان لافتتان لم تفصل بينهما أكثر من ساعات معدودات، من دون أن تفضيا بدورهما إلى نتيجة عمليّة ملموسة، أقلّه حتى الآن.

فإلى ​بيروت​، حضر الأسبوع الماضي ​وزير الخارجية​ المصري ​سامح شكري​، حيث تنقّل بين المقار الرسمية، قبل أن يحذو حذوه الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير ​حسام زكي​، مؤكدًا استعداد الأمين العام للجامعة ​أحمد أبو الغيط​ ل​مساعدة​ ​لبنان​، بأيّ طريقة، لتجاوز ​الأزمة​ التي يتخبّط خلفها منذ أشهر.

ومع أنّ الحراك العربيّ وُصِف بـ"المكمّل" للجهود الفرنسيّة المبذولة في إطار "مبادرة" الرئيس ​إيمانويل ماكرون​، وهو جاء بعد طلب الفرنسيّين "مؤازرة" العرب ومساندتهم، إلا أنّ كثيرين يعتقدون أنّه، على النقيض، جاء ليشوّش على مساعي الحلّ، لا سيما وأنّه تولّى مهمّة تبديد" الأجواء الإيجابية التي كانت سائدة.

وفي حين طرح هذا الحراك العديد من علامات الاستفهام عن "الأبعاد" الكامنة خلفه، وما إذا كان ينطوي على مسعى مصريّ للعب دورٍ ما في لبنان، أو لاستعادة مكانة لطالما حظيت بها مصر، رأى كثيرون أنّه يفتقد إلى "مقوّمات" الباحث عن دور، مع افتقاره إلى "الحياد الإيجابيّ"، بوصفه الشرط البديهيّ لنجاح أيّ وساطة.

"تحيّز واضح"!

سواء صحّ الكلام عن حراك مصريّ جديد في لبنان، جسّدته زيارتا شكري وزكي في مكانٍ ما، بالاتفاق والتنسيق مع الفرنسيّين أو بمُعزَلٍ عنهم، فإنّ المراقبين يتحدّثون عن العديد من "الثغرات"، وربما "الخطايا"، التي وقع الوُسطاء في فخّها، أولها ابتعادهم عن "الحياد"، واصطفافهم إلى جانب فريق ضدّ الآخر.

ولعلّ النقطة المشترَكة بين الزيارتين تمثّلت في "استثناء" رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​ من "أجندة" اللقاءات التي عقدها المسؤولان، في ظلّ تعمّد شكري "مقاطعة" رئيس "التيار"، وإيحاء زكي بوجود أسباب "لوجستية" حالت دون اللقاء، نظرًا لوجود باسيل في ​اللقلوق​، بعيدًا عن بيروت، رغم وجود الرغبة والنيّة بإتمامه، وإن أكّد مستشارو رئيس "التيار" أنه أبدى كلّ "جاهزية" لاستقبال ممثل ​الجامعة العربية​ في أيّ وقت.

هنا، يتحدّث المحسوبون على "التيار" عن سلسلة "تحفّظات" على مضمون الزيارتين، ولا سيما على "نوايا" وزير الخارجية المصري، الذي يقولون إنّه أتى بـ"أحكام مسبقة" ضدّ باسيل، في "إيحاء" بتحميله مسؤولية تعطيل عملية تأليف ​الحكومة​، وهو ما توّج بمنح رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، في المقابل، "امتيازًا مجانيًا"، بعقد ​مؤتمر​ صحافي من دارته، في "دعم ضمني" للرجل، لم يكن خافيًا على أحد، رغم اللياقات الدبلوماسية التي غابت عن المشهد.

ويستغرب "العونيّون" أن يُقال إنّ المهمّة التي أتى شكري ومن بعده زكي لإتمامها في لبنان، جاءت "مكمّلة" للمبادرة الفرنسية، خصوصًا أنّها جاءت في وقتٍ كان باسيل "المتجاوب الوحيد" مع الشقّ الأخير من المبادرة الفرنسية، ومسعى ​باريس​ لجمعه مع الحريري، في حين وضع الأخير العصيّ في الدواليب، معلنًا بالفم الملآن رفض الاجتماع برئيس "التيار"، تحت شعار عدم تعويمه، الذي يخفي وراءه خوفًا من الظهور بمظاهر "المنهزم والخاسر" على أرض الواقع.

الحلّ في مكان آخر!

هكذا، يرى كثيرون أنّ الحراك المصري أتى "منقوصًا" من الأساس، لكونه جاء فاقدًا لعناصر النجاح الأساسيّة المطلوبة، وعلى رأسها الوقوف على مسافة واحدة، إلا إذا كان المطلوب التمهيد ل​عقوبات​ ستطال فريقًا دون آخر، وهو ما يخشى كثيرون أن "يعقّد" المشهد الحكوميّ أكثر ممّا هو معقَّد، ويجعل الانفراج الموعود "سابع المستحيلات".

لكن، في مقابل هذا الرأي، ثمّة من يصرّ على تصنيف الحراك المصريّ المستجد، في إطار "رفع العتب" ليس إلا، خصوصًا أنّ لا قيمة مرتجاة له من الأصل، فدور مصر كما دور الجامعة العربية يبقى "شكليًا" في أفضل الأحوال، وهو يبدو بلا لون ولا طعم، وبالتالي فإنّ لا توقّعات فعليّة منه، بعيدًا عن الكلام المعسول الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يغني ولا يسمن من جوع.

وفي هذا السياق، ثمّة من يشير إلى أنّ ​جامعة الدول العربية​ بحدّ ذاتها تبدو كمن لا حول ولا قوة لها، علمًا أنّ دورها "الوازن" غاب في قضايا عربية مفصليّة وشديدة الحساسيّة، من ​سوريا​ إلى ​اليمن​ مرورًا ب​ليبيا​، وغيرها من بؤر الصراع الممتدّ في المنطقة، ما يجعل "الرهان" عليها في الأزمة اللبنانية أقرب إلى "الوهم"، بعيدًا عن "فنّ" التعبير عن "القلق" ربما.

وبين هذا وذاك، يعتقد المراقبون أنّ مشكلة المبادرة الفرنسيّة، كما الحراك المصريّ الآن، أنّ "الجوهر" يبقى مفتقَدًا على خطه، في ظلّ "تغييب" المعنيّين الأوائل بالأزمة، وبالتالي مفتاح الحلّ، فمع أنّ باريس حاولت فتح كوة في الجدار من خلال التواصل الأخير بين رئيسها و​ولي العهد السعودي​ الأمير محمد بن سلمان، فإنّ الطريق لا تزال طويلة وشاقة على ما يبدو.

ويرى هؤلاء أنّ "مفتاح الحلّ" في لبنان ليس في يد باريس و​القاهرة​، وإنما في يد القوى الإقليمية التي "تمون" على الأطراف الداخلية، بمُعزَلٍ عن كلّ ما يُحكى بخلاف ذلك، خصوصًا أنّ هناك اعتقادًا سائدًا لدى شريحة واسعة، وقد يكون دقيقًا بنسبة كبيرة، أنّ الحكومة لا تزال "رهينة" الاشتباك الإقليميّ المتفاقم، في ضوء الحرب الدبلوماسية الأميركية-ال​إيران​ية المتواصلة حول "من يخطو الخطوة الأولى"، بما يتقاطع إلى حدّ بعيد مع "الاشتباك" الحكوميّ في الداخل.

أين "الوسيط المحايد"؟

سواء كان الحراك العربيّ منسَّقًا مع الفرنسيّين، وفي إطار مبادرتهم في لبنان، أم أتى منفصلًا عنهم، مشوِّشًا عليهم، فإنّ الأكيد أنّه لم يرقَ لمستوى الجدية المطلوبة في هذه المرحلة لتحقيق تقدّم فعليّ في الملفّ الحكوميّ.

يقول البعض إنّ هذا الحراك أتى "بلا طعم ولا لون"، ليس لأنّ المصريّين لم يبدوا "وسيطًا محايدًا" فحسب، ولكن ببساطة، لأنّهم ليسوا "الطرف الأمثل"، طالما أنّ لا "موْنة" لديهم على أحد من الأطراف المتنازعة.

يوحي هؤلاء أنّ المطلوب تدخّلٌ ضاغطٌ من قوى أخرى، في غمزٍ من قناة ​السعودية​ وإيران على وجه الخصوص، في إيحاء ضمنيّ بأنّ مضيّ هاتين الدولتين في مسار "التهدئة" لا بدّ أن ينعكس حكمًا "انفراجًا" على خطّ الحكومة.

لكن، قبل هذا وذاك، يبقى المفصل الأساسيّ متمثّلًا في مدى قدرة اللبنانيّين أنفسهم على معالجة أمورهم، ومدى استعدادهم لحلّ خلافاتهم، على طريقة المقولة الفرنسية الشائعة "ساعدونا لنساعدكم"، التي يبدو انّها ستبقى بلا مجيب حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا...