منذ بدأ "العهد" يراكم الخصوم، من كلّ حدبٍ وصوب، وتحوّل بعض "الأعداء التقليديين" إلى "حلفاء ورفاق" تجمعهم فكرة "مناهضة" العهد وما يمتّ إليه بصلة، يدور الحديث عن فكرة ولادة "جبهة معارضة" توحّد الجهود في لواءٍ واحد.

تستند هذه الفكرة، في الجوهر، إلى إحدى "بديهيّات" العمل الديمقراطيّ، التي تقوم على أنّ مثل هذه الجبهة قد تحمل في "وحدتها"، مقوّمات نجاح تفوق بأضعاف ما يمكن أن تؤمّنه مكوّناتها "متفرّقة"، وهو ما ثبُت بالفعل والممارسة على كلّ حال.

ومع أنّ فكرة هذه الجبهة طُرِحت مرارًا، وعلى هامش أكثر من مناسبة، وفي ذروة "الخلاف" مع العهد، إلا أنّ معوّقات عدّة كانت تحول دون إبصارها النور، أولها ربما "عدم التناغم" الحقيقي بين مكوّناتها المفترضة، فضلاً عن تباين "الأجندات" فيما بينها.

اليوم، عاد الحديث عن هذه "الجبهة" ليخرق الجمود السياسيّ، على خلفيّة ما يُحكى عن "موت" المبادرة الفرنسيّة، والحديث عن "سيناريوهات" بديلة، بينها الانتخابات أو حكومة اللون الواحد، بما يطيح بإمكان الذهاب إلى "ائتلاف" حكوميّ موسَّع.

فهل أصبحت مثل هذه "الجبهة المعارضة" قابلة فعلاً للتشكيل، في ظلّ الظروف الراهنة التي تعصف بالوطن؟ وأيّ "أجندة" يمكن أن تحملها هذه الجبهة؟ ومَن يمكن أن تضمّ مِن الأفرقاء أصلاً؟

"تقاطع مصالح"

وفقًا للمعطيات المتداولة، فإنّ جبهة المعارضة التي يتمّ الحديث عنها تشمل بالدرجة الأولى، كلاً من تيار "المستقبل" وحركة "أمل" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" وتيار "المردة"، وجلّهم من "الأصدقاء" الذين لا تجمعهم "الكيمياء" بالعهد، وإن تفاوتت العلاقة معه بشكل أو بآخر.

فمع أنّ خصومة "العهد" تجمع هذه المكوّنات، إلا أنّ علاقتها به مرّت بالكثير من الأخذ والردّ، حيث عاش تيار "المستقبل" مثلاً بقيادة رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ فترة "ورديّة" معه، على حساب الآخرين، لم تَنتَهِ إلا بعد احتجاجات السابع عشر من تشرين الأول، حين اختار الحريري "الاستماع لصوت الناس"، عبر الاستقالة دون التنسيق مع شركائه.

أما حركة "أمل" بقيادة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، فتبدو العلاقة بينها وبين "العهد" متأرجحة لكن ميّالة نحو السلبية، علمًا أنّ هناك من يقرأ في "صمت" بري في الآونة الأخيرة، الذي يرقى لمستوى "الاعتكاف"، رسالة "امتعاض" واضحة من "الأستاذ" إزاء "العهد"، لم يتردّد في التعبير عنها، ولو نسبيًا، بتبنّيه مطالب الحريري في أكثر من محطّة.

ولا تحتاج العلاقة بين تيار "المردة" و"العهد" للكثير من الفحص والتدقيق، إذ قد يكون النائب السابق سليمان فرنجية أكثر "الثابتين" على الخصومة مع "العهد"، منذ وصول ​الرئيس ميشال عون​ إلى قصر بعبدا، وذلك بعدما منعه الأخير من الحصول على لقب "الزعامة"، يوم نجح في تأمين أكثرية كافية إلى جانبه، فكانت نقطة "الافتراق".

وتبقى علاقة رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط بـ"العهد" الأكثر التباسًا وغموضًا، فمع أنّ أحدًا لم يسبق جنبلاط إلى مستوى "الهجوم" الذي شنّه في أكثر من محطّة على الرئيس عون، نجح في إيجاد "توازن"، فكان يكرّس دومًا "الهدنة" من دون سابق إنذار، وهو ما حصل أصلاً في الآونة الأخيرة، وتسبّب ببعض "النفور" لدى الحريري.

باختصار، يجمع "تقاطع المصالح" بين كلّ هؤلاء، ما قد يدفعهم إلى التلاقي تحت لواء "جبهة معارضة" واحدة، بأجندة واضحة قوامها "تنسيق المواقف" بشكلٍ أو بآخر، بعيدًا عن "التغريد الفرديّ"، علمًا أنّ ثمّة من يرى أنّ الهدف الفعليّ لهذه الجبهة قد يتخطّى مسألة الحكومة، ليصل إلى "العمق"، وهو تحديدًا ​الانتخابات الرئاسية​ المقبلة.

أيّ "جدوى" من "الجبهة"؟

يشكّك كثيرون بـ"جدية" الحديث عن "جبهة معارضة"، ربما لأنّها ليست المرّة الأولى التي يُثار فيها النقاش حولها، من دون أن يُترجَم واقعيًّا، ولكن قبل ذلك، لـ"انعدام الجدوى" منها برأي كثيرين، فلا هي قادرة وحدها على الوقوف في وجه "العهد"، ولا على إحداث "خرق جدّي"، لأنّ مكوّناتها أصلاً خصمة لـ"العهد"، ولن تنقلب عليه فجأة.

أكثر من ذلك، ثمّة من يشير إلى "انعدام الجدوى" من بوابة وجود رئيس مجلس النواب فيها، بمُعزَلٍ عن "​حزب الله​"، الحليف المشترك بينه وبين "التيار"، والذي لن يرضى بأيّ خطوة من شأنها "تحجيمه"، علمًا أنّ كثيرين يرون في وجود بري "ضمانة" لمنع أيّ أفكار "انقلابيّة"، بدليل رفضه القاطع لفكرة "الاستقالة" من البرلمان، واعتبارها بمثابة "مؤامرة".

وفي حين يطرح البعض أفكارًا لتعزيز "جدوى" مثل هذه "الجبهة"، عبر توسيعها لتشمل قوى مُعارِضة أخرى، على غرار حزب "القوات اللبنانية" مثلاً، فضلاً عن حزب "الكتائب"، بل ربما قوى ​المجتمع المدني​ والمدنيّين، يستبعد كثيرون مثل هذا "السيناريو"، وذلك لتناقض الرؤى بين هذه القوى، التي تتفوّق في بعض الأحيان على الخلافات بينها وبين "العهد".

فإذا كان جمع "القوات" و"الكتائب" أضحى من "سابع المستحيلات" مثلاً، نظرًا للعلاقة "المتوترة" بين الفريقين اللذين يعتقدان أنّهما يتقاسمان "الصحن الشعبي" نفسه، فإنّ قناعة راسخة لدى كثيرين بأنّ كلاً منهما يرفض الانضمام أصلاً إلى أيّ "جبهة" من هذا النوع، لأنها تتناقض مع مشروعهما "الانتخابي" القائم على "تحييد" نفسهما عن الطبقة السياسية.

ويقول "القواتيون" في هذا السياق، إنّ هذه "الجبهة" لا تعنيهم من قريب أو من بعيد، بل يحكمون عليها سلفًا بالفشل، لأنّها لن تقدّم ولن تؤخّر، ولأنّ المطلوب ليس البحث عن "جبهات" تزيد المناكفات السياسيّة، وإنما الذهاب إلى إجراء انتخابات نيابية تعيد بلورة الطبقة السياسية برمّتها، باعتبار ذلك "مفتاح الحلّ" الوحيد برأيهم.

ويتقاطع "الكتائبيون" مع هذا الرأي بشكل أو بآخر، ولو "زايدوا" على "القواتيين" برفض "التطبيع" بالمُطلَق مع السلطة، التي يعتبرون "القوات" نفسها جزءًا منها، طالما أنّها ترفض الاستقالة من البرلمان، علمًا أنّ هناك من يضع "الكتائب" و"القوات" في الخانة نفسها، ويعتقد أنّ القفز فوق دورهما في الحكومات المتعاقبة لا يجدي نفعًا.

"تضييع للوقت"

كأنّ الوضع بألف خير، يدور الحديث من جديد في لبنان عن "جبهات" سياسيّة، تارةً بعنوان "تنسيق المواقف"، وطورًا بعنوان "المعارضة البنّاءة".

هكذا، بعدما سلّم الجميع بفشل المبادرة الفرنسيّة، وإخفاقها في تحقيق الأهداف المنشودة من ورائها، بدأ الحديث عن الإطار السياسيّ، بدل السعي الجدّي ل​تشكيل الحكومة​.

يحدث كلّ ذلك في وقت يتناوب السياسيون على "تبشير" اللبنانيين بـ"الانفجار الاجتماعي" القادم لا محالة، والذي قد يبلغ "ذروته" نهاية الشهر الجاري، مع تحرير "قنبلة" ​رفع الدعم​.

وقد يكون مشهد "الذلّ" الذي عايشه اللبنانيون مرّة أخرى في الأيام الماضية، من خلال "الطوابير" أمام ​محطات المحروقات​، كافيًا للدلالة على هذا الواقع الصعب والمُرّ.

رغم كلّ ذلك، يتصدّر النقاش حول "جبهة المعارضة" الجدل السياسيّ في البلاد، "جبهة" يدرك القائمون عليها كما المتوجّسون منها، أنّها لن تكون أكثر من عنصر "إلهائي"، لـ"تضييع الوقت"، حتى إشعار آخر، أو ربما بانتظار أن يأمر الله أمرًا كان مفعولاً!.