من المؤكد ان مفهوم مصاصي الدماء تغيّر كثيراً بالنسبة الى العديد من ال​لبنان​يين. ففي المبدأ عندما يتم الحديث عن "مصاص دماء"، تتبادر الى ذهننا فوراً شخصية "دراكولا" مع انيابه الحادة التي يسحب منها دماء فريسته. هذه الشخصية الخيالية بمواصفاتها وميزاتها، تقابلها شخصيات حقيقية ومليئة ب​الحياة​ في لبنان، وتتفوق عليها بأشواط من ناحية كمية الدماء التي تسحبها من جهة، وعدم خضوعها لقوانين وشروط وقواعد كتلك التي حددت طريقة تفاعل "دراكولا" مع طبيعته المتعطّشة للدماء، فهو كان يريح الناس في ​النهار​ وينشط في الليل، اما في لبنان، يتمتع "مصاصو الدماء" بأفضليّة سحب الدماء من ضحاياهم في أيّ وقت يشاؤون، أكان في الليل أم النهار، وهم لا يتورعون عن القيام بعملهم "الدموي" حتى في ظل وجود الصليب او ​المياه​ المقدسة وغيرها من الامور التي كانت تمنع "دراكولا" من اكمال مهمته.

"مصاصو الدماء" الذين نتكلم عنهم في لبنان، هم المسؤولون والسياسيون، و​التجار​، وأصحاب ​المصارف​، والصيارفة، ومسؤولو الشركات، واصحاب المحطّات والسوبرماركت و​المستشفيات​ و​الصيدليات​ و​المولدات​ الكهربائيّة، وكثيرون غيرهم لا مجال لتسميتهم لان اللائحة تطول وتطول... هؤلاء يستيقظون صباحاً ويلبسون ملابس الحملان ويبدأون عملهم في "اصطياد" الدماء الطازجة (اي الناس بشكل عام) الذين يأتون اليهم ويسلّمونهم اعناقهم لسحب كميات الدماء. نجح الجيل الحقيقي من "دراكولا" بادئ الامر في اقناع الكثيرين بأنه جيل مظلوم ويكافح من اجل العيش، اما اليوم فتخلى عن حيائه واصبح يفرض على الناس دفع ضريبة محددة من الدماء تتغير بشكل تصاعدي كل يوم في مقابل الاستفادة من البضائع والمواد التي يبيعونها، كل ذلك تحت تأثير ​الوضع الاقتصادي​ والمالي المتردّي، وكأنّ الناس تعيش في "بحبوحة" ماليّة وهم وحدهم من يتصدى للازمة بصدورهم ويقدمون التضحيات كي تبقى الحياة في لبنان على نمطها!.

تغيير ​الاسعار​ بشكل آني، ورفعها فور التبلغ بارتفاع سعر ​الدولار​ وعدم تخفيضها عند تراجع هذا السعر نسبياً، واخفاء مواد يحتاجها الناس في حياتهم اليومية كي تعود فجأة بسعر اكبر بكثير مما كانت معروضة فيه للبيع، و"اذلال" المواطنين لنيل مكاسبهم وحقوقهم اكانت مادية او تموينية من خبز ومواد استهلاكية وبنزين ودواء... كلها عوامل تؤكد ان لبنان وليس رومانيا، بات الوجهة الاولى لخلفاء "دراكولا" مع تغيير واضح في النهج والاسلوب لمواكبة متطلبات العصر وتغييراته. قلّة فقط من اللبنانيين ترتضي تقديم دمائها "على مضض" لانها مجبرة بعد ان تقطعت بها سبل إسماع صوتها او مغادرة البلد، فيما القسم الاكبر يرتضي تقديم الدماء بشكل يومي، لكسب ودّ زعيمه ومسؤوله السياسي والحزبي، وهو يعلم تمام العلم ان هذا المسؤول او الزعيم سيتخلى عنه وعن كل ما نادى به من مبادئ ارضاء لمصلحته الشخصيّة، والا كيف نفسر السكوت عن احتجاز ​الاموال​، وعن الوقوف في صفوف لا تنتهي لشراء ​الدواء​ وتعبئة ​البنزين​ والخضوع لمزاجيّة اصحاب المحطات والعاملين فيها ليستعطي اللبناني ليترات اضافية من البنزين الذي يظهر ويختفي كالساحر هوديني، وعن الارتفاع الجنوني للاسعار فيما الدولار كان لفترة من الوقت مستقراً على سعر معيّن (ولو مرتفع) علماً انه كان وصل في فترات سابقة الى حدود الـ15 الف ليرة لبنانية ولم تشهد السلع والمواد الاستهلاكية هذا الارتفاع الجنوني في الاسعار!.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل بالفعل يريد هؤلاء ان تنتظم الامور في البلد؟ الجواب بسيط: بالطبع لا، فهم على استعداد لتقديم الكثير كي تبقى الامور على ما هي عليه اليوم، لانهم يدركون جيداً عواقب اصطلاح الاوضاع ومردودها السلبي على طريقة تصرفهم، وهم يدركون ان وجودهم في لبنان هو بمثابة "ورقة ​يانصيب​" لانهم لو كانوا في أي بلد آخر لكانوا تعرضوا لرقابة فاعلة وصارمة، وحيث يشكّل ​القضاء​ الجدار الرادع لكل مخالف للقانون، فيتنافسون عندها، هم انفسهم، على محاولة التخفيف من المعاناة والالم والحسرة عن الآخرين، ليتجنّبوا العدالة العمياء.

مسكين "دراكولا" لانّه بات لا يعرف نفسه في لبنان، ومسكين بعض اللبنانيين الذي لا حول له ولا قوة سوى التعامل مع "مصاصي الدماء" بشكل يومي، وتحمّل تمثيلهم المصطنع حول تحسسهم ووقوفهم الى جانب اللبنانيين في هذا الظرف العصيب. ويبقى الامل في ان تشرق ​الشمس​ قريباً علّها تحرق ظلمة اعمالهم السوداء وتقضي على مخزون الدماء الذي كدّسوه على مدى سنوات واشهر طويلة.