هذا الأحدُ هُوَ أحدُ آباءِ المجمَعِ المَسكونيّ الأوَّلِ الذي انعَقَدَ في «نيقية» (​تركيا​ حاليًّا) عام ٣٢٥م، وكان مِحورَهُ الرَّدُّ على هَرطَقَةِ كاهِنٍ ليبيّ في ​الإسكندرية​ يُدعى أريوس، إذ نَزَعَ الأُلوهَةَ عن الرَّبِ يَسوعَ المَسيحِ. وبَدأت تَتكوَّنُ جَماعاتٌ كَثيرةٌ تابِعة له خارِجَ نِطاقِ منطقتِه. وقد حاوَلَ بَطريركُهُ ألكسندروس، الذي اشتُهِرَ بِقَداسَتِهِ، أن يُفَسِّرَ له خَطَأهُ فَرَفَضَ الإصغَاء.

وبِهذا يَكونُ أريوسُ قد أنكَرَ جوهرَ الثَّالوثِ القُدُّوسِ (الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُس)، وألغى كُلَّ اتّحادٍ بَينَ اللهِ والإنسانِ بإلغائِهِ التَّجسُّدَ الإلهيّ. وهُنا يُطرَحُ السُّؤالُ: ماذا تُريدُ الإنسانِيّةُ من إلهٍ بَقِيَ في سماواتِه؟ وعلى أيِّ مَحبَّة إلهيَّةٍ كُنّا سنتكلَّمُ لو لم يَتجسَّدِ الله؟.

فالإيمَانُ المَسيحيُّ يُعلِنُ صَراحَةً وَحدانِيَّةَ اللهِ مِن جِهَة، وثُلاثِيَّةَ أقانِيمِهِ مِن جِهةٍ أُخرى. فالآبُ هو اللهُ، والابنُ هُوَ اللهُ، والرُّوحُ القُدُسُ هُوَ الله، وهُم إلهٌ واحِدٌ في الجَوهَر، ولا وُجُودَ لأيِّ فَرقٍ زَمَنيّ في الوُجُودِ بَينَ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ، مِثلَ الشَّمعَةِ المُضيئةِ نَرى فيها شُعلَةً واحِدَة، ولكن في الوَقتِ نَفسِهِ تَحوي النَّارَ والنُّورَ والحَرارة.

فالأُقنومُ الثّاني، أي الابن، تَجسَّدَ وبَقِيَ إلهًا، إذِ المَسيحُ إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ. وهذا ما أَعلَنَهُ يَسوعُ سواءٌ في حَديثِهِ مَعَ المَرأةِ السَّامِريَّةِ عِندما قَالَت لَهُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ»، فأجابَها «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ»(يوحنا ٢٥:٤-٢٦)، أو فِي حِوارِهِ مَعَ الأعمى، الذي جَبلَ لهُ مِنَ الطِّينِ مُقلَتَين، إذ سَألَهُ الرَّبُّ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟» فأَجَابَه «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!». (يوحنا ٣٥:٩-٣٧).

ما يَجعَلُنا نَقِفُ إجلالًا أمامَ آباءِ هذا المَجمَعِ، هو أنَّ كثيرين مِنهم رفضُوا، في زمنِ الاضطِهاداتِ، نُكرانَ المَسيحِ، وأُنزِلَت بهم شتّى أنواعِ التَّعذيب، فحَضَروا إلى المَجمَعِ، حامِلينَ آثارَ عذاباتِهم، مِن بَترٍ للأَطرافِ، وحَرقٍ وتَشويهٍ وغيرِها، فكانت بِمثابَةِ أوسِمَةٍ زيَّنت صُدورَهم.

هُم أوّلًا أبطالٌ قبل أن يكُونُوا مُعلِّمينَ للعَقِيدة، لذا يُحتَذى بِسيرَتِهم وجِهاداتِهم وصَبرِهم وإيمانِهم الّذي هُوَ أقوى مِن الصَّخر. وهذا ما جَعلَهُم يُحافِظُونَ على الحَقِيقَةِ الإلهِيَّةِ بِكُلِّ صِدقٍ وأمانَة، وأن يُشكِّلوا سَدًّا مَنيعًا في وَجهِ الانحِرافِ والهَرطَقة.

وتأتي التَّرتيلةُ الخاصَّةُ بِهم بِلحنِها الفَخمِ، لِتُتَرجِمَ شهادَتَهمُ العَظيمَةَ، إذ تَصِفُهُم قائِلة: «يا لَكُم مِن جَيشٍ إلَهيٍّ، يا جُنودَ مُعَسكَرِ الرَّبِّ اللاهِجينَ بِالله».

لقد كانَ عَسيرًا على أريوسَ أن يَفهَمَ حقيقَةَ الثَّالُوثِ، فَهرطَقَهُ. وهذا الأمرُ مُستَمِرٌّ في التَّاريخِ تَحتَ أوجُهٍ أُخرى.

لا عَجَبَ في ذَلك، فكِبارُ عُظَماءِ اليَهودِ قبلَهُ لم يَفهَموا، وهذا جَليٌّ في مُحاكَمَةِ الرَّب، إذا سَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يسوعَ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ»(مرقس ٦١:١٤-٦٢).

فَهذهِ الحَقيقَةُ لا يُمكِنُ إدراكُها إلّا بِعلاقَةِ صَلاةٍ مَعَ الرَّب، فيكونُ للنِّعمَةِ الإلهِيَّةِ الحُضورُ المُرافَقُ بِالرُّوحِ القُدُس. وهذا الرُّوحُ الإلهيُّ مُستَمِرٌ مِن جِيلٍ إلى جيلٍ بآباءٍ قِدّيسِينَ ومُؤمِنِين.

وإذا سألنا: هَلِ الهُرطُوقيُّ، مَن كانَ، غيرَ مُتعلِّمٍ أم الكَثيرُ العِلم؟ يكونُ الجَوابُ: النتيجة ذاتها، لأنَّ المُشكِلةَ تَكمُنُ في التَّكبُّرِ والانتِفاخِ. فالمُتَكبِّرُ يَظُنُّ أنَّهُ يُجَسِّدُ الحَقيقَةَ، ويَزدادُ تَعنُّتًا يَومًا بَعدَ يَوم، وهنا قِمَّةُ الجَهل.

ومعروفٌ في عِلمِ اللاهُوتِ أنَّ الكِبرياءَ أُمُّ الخَطايا. فالمُنتَفِخُ مِن ذاتِهِ واقعٌ في الشَّطَطِ لا مَحالة. الكبرياءُ مَرَضٌ عَقيمٌ وخَطير morbide ومعروفٌ شَعبيًّا بِجُنونِ العَظَمة، وهو تحديدًا هَذيانٌ مِن عائِلَةِ الذُّهانِ الوَهمي المُزمِن.

إنّهٌ مَرضٌ قاتِل، إذ يُبالِغُ الإنسانُ في تَعظيمِ ذاتِه، فيصبِحُ تَفكيرُهُ غيرَ مُتوازِنٍ، وبعيدًا عن المنطِقِ ويَشوبُهُ خللٌ، وهذا المَرَضُ يَفصلُ صاحِبَهُ عنِ الواقِعِ، فيتولّدُ عندَهُ انعدامٌ في الرّؤيَةِ الحَقيقيَّة، وتكونُ شخصِيَّتُهُ غيرَ مُتَّزِنةٍ نَتيجةَ الوُقوعِ في هَلوَساتٍ فِكريَّةٍ تُوهِمُهُ بأنَّ مؤامرات تُحاكُ ضِدَّهُ، فيصبِحُ التَّواصُلُ الاجتماعيُّ الصحيحُ والانفتاحُ على الآخَرينَ شِبهَ مُستَحيلٍ، ولا تُحمَدُ عَواقِبُ هذا الأمر، إذ يَقعُ المريضُ دائمًا في السَّلبيّاتِ بِلَومِ الآخَرِين، ممّا يَزيدُهُ تَقوقُعًا وتَعظِيمًا لِنَفسِه.

ولهذا تتنوع الهرطقات لتكون إيمانيّة واجتماعيّة وسياسيّة وعلميّة وأدبيّة وحقوقيّة وغيرها.

وهنا يُطرَحُ أمامَنا أمران: ما هي الهَرطَقَةُ؟ وما حَقيقَةُ إيمانِنا؟.

كَلِمَةُ هرطَقة بأصلِها اليُونَانيّ تُشيرُ إلى قَطعِ شَيءٍ عن أصلِه، وصاحبُ الهَرطَقةِ هو شَخصٌ يَقسِمُ Une personne qui divise. وهذا ما عناه بولسُ الرَّسولُ عندما كتبَ لِتلميذِهِ تيطُسَ يُنبِّهُه: «اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ - الهرطوقيHérétique - بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِمًا أَنَّ مِثْلَ هذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ»(تيطس ١٠:٣-١١).

في الخِتامِ، هناكَ قولٌ للفَيلسُوفِ الإغريقيّ Protagoras (٤٨١-٤١١ ق م): «ما يُسَمّيهِ الإنسانُ حقيقَةً، ما هُوَ إلّا حقيقتُه هُوَ، أي نظرتُه الخاصّة للأمور».

أمّا المسيحيَّةُ فَتقولُ: حَقيقَتُنا إلهيَّةٌ وكَشفٌ إلهيٌّ وليسَ بَشرِيًّا على الإطلاقِ، «بِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ»(١ تي ١٦:٣)، كُلُّ هذا لأنَّ اللهَ أحبَّنا وأَتى إلَينا. آمين.