يأتي يومُ الخَمسين بعدَ الفِصحِ لِننالَ المَوعد. هذا ما قَالهُ الرَّبُّ لِتلاميذِهِ عندما أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، ويَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْوهُ مِنِّه، إذ سَيتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ(أعمال ٤:١-٥).

هذا ما نُسمّيهِ "العَنصرة"، وهي تَسميةٌ عِبريَّةٌ تَعني الاجتماع، أمَّا كَلِمةُ Pentecôte فهي تَأتي مِنَ اللغَةِ اليُونانِيَّة وتَعني "اليوم الخمسين".

نص أعمال الرسل الذي يذكر العنصرة جميل جدًا (أعمال ٢). فما قبل العنصرة ليس كما بعدها.

قَبلَ العَنصرةِ كانَ التَّلاميذُ في الدَّاخِلِ يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، وبَعدَ العَنصَرةِ، "امْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا".

خَرجُوا إلى العَلنِ يُنادُونَ بِخَلاصِ الرَّب. وهُنا تتحَقَّقُ كلِمَةُ كَنيسة ecclesiaفي أصلِها اليُونانيّ والّتي تَعني "أَخرُجُ وأُنادي"، والمَقصودُ طَبعًا أَخرُجُ إلى المَسكونَةِ جَمعاءَ وأُنادِي بِخَلاصِ الرَّب.

الامتِلاءُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ تَألُّهٌ، وهذِهِ غايَةُ وُجودِنا، ودَعوتُنا أن نُحَقِّقَ ما عَلَّمنا إيّاهُ الرَّبِّ في صَلاةِ الأبَانا: لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.

هَذِهِ الطِّلباتُ الثَّلاث مُترابِطَةٌ فيما بينَها، أي: لِيتَقَدَّسِ اسمُ الرَّبِّ كما في السَّماءِ كَذَلِكَ على الأَرضِ، ولِيأتِ ملكوتُ الرَّبِّ كما في السَّماءِ كَذَلِكَ على الأرضِ، ولِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.

وإذا سألنا: أينَ على الأرض؟ يكونُ الجَوابُ: فينا نَحن. فعِندما نُحَقِّقُ ذلكَ تُصبِحُ المَسكُونةُ كُلُّها بِسَلام.

لِهذا تَذكُرُ الرِّسالةُ إلى غَلاطِيةَ ثَمرَ الرُّوحِ القُدُس، وهي: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ. (غل ٢٢:٥-٢٣)، ويُكمِلُ بولسُ الرَّسولُ كلامَهُ: "إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ".

أُولى الثِّمارِ بعدَ العَنصَرةِ مُباشَرَةً، كانت أنَّ التَّلاميذَ تَكَلَّمُوا بِلُغتِهِمِ الجَليلِيَّةِ، وكُلَّ الحاضِرينَ كانُوا مِن أُممٍ مُختلِفَةٍ، لكِنَّهم فَهِموا ما قيلَ كُلِّهِ كأنَّهم يُكَلِّمونهم كُلَّ واحدٍ بِلُغَتِه. هذا تَمامًا عَكسُ ما حَصلَ في بُرجِ بابِلَ قَديمًا، عِندما كانُوا يَتكلَّمُونَ لغةً واحِدَة، فَبَلبَلَهُم اللهُ ولم يَعُدِ الواحِدُ يَسمعُ لِسانَ الآخَر.

وهُنا نَصِلُ إلى بَيتِ القَصيدِ: ألا يُشابِهُ وضعُنا اليومَ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ وضعَ بُرجِ بَابِل؟ ولنَسألْ صَراحَةً، بِحَسبِ أيِّ رُوحٍ نَحنُ نَعيشُ ونَسلُك؟.

في عَالَمِ التَّسويقِ والإعلانِ والإعلامِ هُناكَ ما يُعرَفُ بالـManipulation، ويمكن أن تُفَسَّرَ هذِهِ الكلِمَةُ بِالتَّلاعُبِ والتَّحريكِ والتَّأثيرِ والدَّفعِ بِاتِّجاهِ ما.

يَشرحُ الاختِصاصِيُّونَ أن عَمليَّةَ التَّأثيرِ هَذهِ لَيست بِالضَّرُورةِ سَلبِيَّةً دائمًا، بَل لها وجهٌ إيجابِيّ حتّى لو كان هدفُها البَيعَ والرِّبح. لكن بِالمُقابِل، أصبحَ التَّلاعُبُ بِنواحِيهِ السَّلبيَّةِ مَنهَجًا ومَسلكِيَّةً طاغِية، وتَأثيرُهُ كبيرٌ على مُستوى الفَردِ والجَماعة، وعلى العَائلاتِ والمُجتَمَعاتِ والأوطَانِ في مَيادِينَ شَتّى، وهَذا يُؤدِّي إلى انحِدارِ في العَلاقَاتِ الاجتِماعِيَّة، ويَجعلُنا نَعيشُ في اللاتَواصُلِ في وسَطِ عَصرِ التَّواصُلِ الرَّقمِي، فَتزدَادُ الوَحدةُ ويَعلُو التَّنافسُ القَاتِل.

فمُحيطُنا مَلِيءٌ بِهذهِ الرُّوح، إن فيما نُشاهِدُهُ في كَثيرٍ مِنَ الأفلامِ والكلِيبَاتِ والبَرامِجِ التّلفِزيونِيَّةِ والدِّعايَاتِ، أو في كثيرٍ مِنَ الأُمورِ الّتي نَتلقَّاها عَبرَ وسائلِ التَّواصُلِ الاجتِماعيّ، بِخاصَّةٍ مِن خِلالِ هَواتِفِنا الذَّكِيَّةِ الّتي لا تُفارِقُنا أبَدًا والمُلتَصِقَةِ بِنا دائمًا.

وإن ظَهَرَ التَّلاعُبُ والتَّأثيرُ الجَماهيريُّ والفَرديُّ بِقُوَّةٍ في القَرنِ العِشرينَ، إلّا أنّهُ لَطالَما كانَ مُوجُودًا في حَقبَاتٍ التّاريخِ المُختَلِفَة، في الأدَبِ والشِّعرِ والأغَاني والأناشِيدِ والمَسرَحِ وغيرِها.

هَذا أمرٌ خَطيرٌ جِدًّا، لِذا الانتِباهُ واجِبٌ، والحِمايَةُ ضَرورِيَّةٌ، وعَلينا الحَذرُ مِنَ الانجِرارِ خَلفَ الرُّوحِ الدَّهريَّةِ، والسَّعي للامتِلاءِ مِن رُوحِ الحِكمَةِ والمَشورَةِ، أي الرُّوحِ المُحييةِ، ألا وهي الرُّوحُ القُدُس.

وهنا أَذكُرُ البرنامجَ التّلفزيونيّ الفَرنسيّ Secret Story (٢٠٠٧-٢٠١٤م)، والمُشابِهَ لِبرنَامَجِ Big Brother الأميركيّ المَشهورِ جدًّا. كلاهُما مِن نَوعِ تِلفزيون الواقِع Reality television. يَدورُ البَرنامَجُ حولَ مَجمُوعَةِ أشخَاصٍ يُوضَعون في مَنزِلٍ واحِدٍ يُسمَّى "بيت الأسرار"، ويَتِمُّ عزلُهُم عنِ الخَارِجِ لِمُدَّةِ عشرَةٍ إلى خَمسةَ عشرَ أُسبُوعًا، ويُوجَدُ في كلِّ غُرفَةٍ كامِيرات، بِاستِثناءِ دورَةِ المِياه.

في بِدايَةِ كُلِّ مَوسِمٍ مِنَ البَرنامَجِ، يَحتوي "بيتُ الأسرار" على غُرَفٍ مَخفِيَّة، مِثلَ "غُرفَةِ الحقائِقِ" و "كَهفِ الحُبّ" وغيرِها، وعلى المُشارِكينَ اكتِشافُ كَيفِيَّةِ بُلوغِها عَن طَريقِ الضَّغطِ على زِرٍّ مَخفِي أو اكتِشافِ ممَر. وأمامَ كُلِّ اكتِشافٍ رِبحٌ لِيَصِلَ المُشتَرِكُ إلى الجَائِزَةِ النِّهائِيّة.

وهناكَ غُرفَةُ "الاعترافِ" حيثُ يقومُ المُتسابِقُونَ يَوميًّا وعلى انفِرادٍ بِالتَّواصُلِ مَعَ "الصَّوتِ "The Voice، الّذي لهُ السُّلطانُ المُطلَقُ، فهوَ يَضعُ القَواعِدَ ويُبَلِّغُ التَّعليمَاتِ، ويُعاقِبُ مَن يُخالِفُها مِثلَ حِرمانِ المُشتَرِكِ مِن المَاءِ الدَّافِئ.

كذلِكَ يُبَلِّغُهم مَن يَبقَى حتَى النِّهايَةِ ومَن يَخسَر. كما يُمكِنُهُ التَّحدُّثُ في أيّ وَقتٍ إلى المُتسَابِقِينَ.

ويَبدأُ "الصَّوتُ" مُداخَلاتِه دائِمًا بِجُملَةٍ: "هُنا الصَّوتُ"، ويُنهي بِعِبَارَةِ "هَذا كُلُّ شَيءٍ ... في الوَقتِ الحَالِيّ"، فيبقَى المُشتَرِكُونَ مُستَنفَرينَ بِانتِظارِ الجَديدِ مِنه.

وعلى كُلِّ مُتسابِقٍ في البَرنامَجِ أن يُخفي سِرًّا يتعلَّقُ بِهِ لِحِمايَةِ رَصيدِهِ، وعلى الآخَرِ أن يَكتَشِفَه، ومَن يَكتَشِفُهُ يَفضَحُهُ وتَزدادُ ثَروتُهُ، كما هُناكَ "مُواجَهةٌ" بينَ المُتنافِسينَ على انفِرادٍ بِحضُورِ الصَّوت. هذا بِاختِصَار.

تُشبِهُ هذهِ اللُّعبةُ الحَياةَ اليَومِيَّةَ الّتي نَتخبَّطُ بِها إجمالًا، انعزالية، تَنافُسٌ قاتِلٌ، كَشفُ أسرارِ بَعضِنا البَعض، والمُتاجَرَةُ بها، تَحقيقُ الذَّاتِ على حِسابِ الآخَرِينَ، استِعمالُ المَهاراتِ للنَّجاحِ الشَّخصيّ وليس للنَّجاحِ الجَماعي. وكُلُّ ذَلِكَ يَجري مُقادًا بِصوتٍ دَهريٍّ مُسَيطِرٍ ومستعبدِ يَحثُّنا على المَزيد.

بِالمُقابِلِ، هُناكَ الصَّوتُ النَّقيُّ الإلهيُّ المَزروعُ في داخِلِنا، والّذي يُريدُ أن يَقُودَنا إلى الحَياةِ الأبَدِيَّةِ الّتي تَمرُّ بِالمَحبَّةِ والتَّآخي وكُلِّ النِّعَمِ الإلَهِيَّةِ، بالإضافة إلى المَواهِبِ الّتي أعطَانا إيَّاهَا اللهُ لِخَلاصِنا أَجمَعِين.

وَجَوابًا على السُّؤالِ مَن يُحَرِّكُنا؟ نُجيبُ: نَأمَلُ أن يَكونَ رُوحُ اللهِ القُدُّوسِ، رَاجِينَ ألّا نُقَسِّيَ قُلوبَنا عِندَ سَماعِ صَوتِهِ. آمين.