التناقض في العنوان مُتعمّد، لأنّه يختصر واقع الحال الذي يُواجهه ​القطاع التربوي​ برمّته في لبنان حاليًا! فها هو شهر أيلول قد أطلّ، وصار من الضروري أخذ القرارات وحسم الخيارات بعد طول تأجيل ومُماطلة وتهرّب. نظريًا، وزير التربية في حُكومة تصريف الأعمال، ​طارق المجذوب​، أعلن إنطلاق التعليم حُضوريًا، وهذا الخيار مَحطّ تأييد مبدئيّ من قبل القطاع الخاص، من باب عدم جواز ترك التلاميذ والطلاب بعيدًا عن مقاعد مدارسهم وجامعاتهم للسنة الثالثة على التوالي. لكنّ السؤال الكبير الذي يفرض نفسه، هو: كيف يُمكن تنفيذ هذه العودة عمليًا وميدانيًا، في ضوء الصُعوبات الهائلة المَوجودة؟.

من الناحية المبدئيّة، القرار مُتخذ بالعودة إلى نظام التعليم الحُضوري، وكل ​المدارس الخاصة​ إستكملت إستعداداتها لإستقبال أهالي التلاميذ في مواعيد مُحدّدة، لدفع رُسوم التسجيل ولشراء ​الكتب​ والألبسة المدرسيّة، ولإستلام الأقساط المدرسيّة التي لحظت بأغلبيّتها زيادات واضحة تفاوتت بين مدرسة وأخرى. وبإختصار، الفواتير باهظة، ويكفي أن يكون للأهل ولد واحد في المدرسة، حتى يشعروا بثقل وعبء المبالغ الماليّة التي عليهم تسديدها لشراء الكتب والقرطاسيّة والبذّات المدرسيّة الخاصة ولدفع الأقساط، إلخ. في حين أنّ العائلات التي لديها أكثر من ولد على مقاعد الدراسة تُعاني الأمرّين، شأنها شأن العائلات التي بلغ أولادها مرحلة التعليم الجامعي ولم يتمكّنوا من حجز مقاعد لهم في إحدى ​الجامعات​ اللبنانيّة. وكل ما يُحكى عن مُساعدات خارجيّة لبعض الصُروح التربويّة الخاصة، يبقى مَحدودًا ومحصورًا، ولن تستفيد منه الشرائح الكبرى من الأهالي.

وفي مُقابل تعثّر شرائح واسعة من الأهالي في تأمين تكاليف التعليم، تُوجد مُشكلة لا تقلّ حدّة، تتمثّل في إنعدام القيمة الشرائيّة لرواتب الكادر التعليمي، شأنه شأن رواتب العاملين في مُختلف القطاعات، ما يجعل من المُستحيل تصحيح هذه الرواتب بالشكل المُناسب، طالما أنّ رواتب الأهالي العاملين لم تُصحّح بدورها! وبالتالي، كيف سيكون أي مُعلّم أو مُعلّمة، على إستعداد لنقل العلم والمعرفة إلى التلاميذ بشكل سليم، في ظلّ راتب لا يكفيه لشراء حاجيّاته لبضعة أيّام فقط من أصل كامل الشهر؟!.

وبعض المشاكل مُستعصية على الحلّ، وأبرزها مسألة تأمين ​البنزين​ والمَحروقات، فإذا كان من المُستحيل التوجّه إلى الصُروح التعليميّة بشكل يومي في حال بقيت أزمة تعبئة البنزين على حالها، فإنّه من المُستحيل أيضًا تحمّل كلفة شراء البنزين، إن من قبل الأهالي أو الكادر التعليمي، في حال رفع الدعم وإضمحلال مُشكلة الإنتظار لساعات طويلة لملء خزّانات السيارة بالبنزين! وهذه المُشكلة المُزدوجة تطال الباصات المدرسيّة بطبيعة الحال، التي ستُصبح نوعًا من الترف على مُستوى الكلفة، علمًا أنّ الكثير من الأهل لا يقدر بحكم وظيفته على نقل أولاده إلى المدرسة أو على إصطحابهم منها عند إنتهاء الدوام المدرسي بُعيد الظُهر. أكثر من ذلك، إنّ كل التقارير تؤكّد أنّ تأمين التيّار الكهربائي من قبل معامل مؤسّسة ​كهرباء لبنان​ خلال الأشهر المُقبلة، سيبقى مُقنّنًا ومَحصُورًا ببضع ساعات في اليوم، هذا في حال نجاح صفقة "الفيول العراقي"، وبالتالي التعليم الحُضوري سيكون إمّا على العتمة، أو بالتعويل على المولّدات الخاصة، علمًا أنّ أزمة ​المازوت​ باقية على حالها أو أنّ أسعار هذه المادة الحيويّة ستُصبح بدورها خياليّة، مع ما يعنيه هذا الأمر من عجز جَماعي على شرائها، علمًا أنّ إستخدام المازوت لا ينحصر بالإضاءة فحسب، وهو يشمل التدفئة أيضًا في عدد كبير جدًا من مدارس لبنان التي لا تقع جغرافيًا على الساحل.

إلى ذلك، تُوجد مُشكلة إستمرار التعايش المَفروض مع وباء "كورونا" ومتحوّراته المُختلفة. وحتى مع إرتفاع أعداد الأشخاص المُلقّحين، فإنّ هؤلاء غير مَحميّين كليًا من الإصابة، والتلاميذ من مواليد العام 2010 وما دون لن يحصلوا على ​اللقاح​ أصلاً، وبالتالي ستواجه المدارس مشاكل إنتشار الإصابات في صُفوفها، مع ما سيُسبّبه هذا الأمر من صُعوبات إضافيّة، ومن إقفال قسريّ في بعض الحالات.

في المُقابل، إنّ خيار التعليم عن بُعد غير عملاني هذا العام، نتيجة الإنقطاع شبه الدائم للكهرباء، والإنقطاع والتقنين المُتكرّرين لمُولّدات الكهرباء الخاصة، ما يعني أنّ ما كان مُمكنًا العام الماضي، غير مُمكن هذا العام، لجهة التعلّم من المنازل بشكل يومي، علمًا أنّ أعدادًا مُتزايدة من الناس بدأت تتخلّى عن الإشتراكات الخاصة، لعجزها عن دفع فواتيرها الباهظة الأخذة بالإرتفاع شهرًا بعد شهر، والمُرشّحة للتحليق بشكل كبير فور رفع الدعم عن المازوت في المُستقبل القريب. حتى أنّ قرار مُضاعفة باقة خدمة ​الإنترنت​ وسرعتها بشكل مجانيّ، من جانب وزارة الطاقة، ينتهي نهاية أيلول الحالي، علمًا أنّ أسعار الإنترنت ستتصاعد بشكل كبير بعد تشكيل حُكومة جديدة، لأنّ هذا الأمر مَطلوب من قبل مُؤمّني خدمات الإنترنت، لكنّه تأجّل لأنّه يحتاج إلى قرار وزاري من حُكومة كاملة الصلاحيّات. وبالحديث عن الحُكومة الجديدة المَوعودة، العديد من القطاعات والنقابات تنتظر إعلان مراسم تشكيل مُطلق أيّ حُكومة جديدة، لتُطلق سلسلة من الإضرابات والإحتجاجات الميدانيّة، بهدف المُطالبة بتصحيح الأجور والرواتب، والقطاع التعليمي سيكون في صلب هذه التحرّكات، وجديدها الإعتصام المُقرّر أمام وزارة التربية الثلاثاء المُقبل من قبل رابطة التعليم الأساسي التي أكّدت مُقاطعة التعليم حتى تحقيق سلسلة من المطالب.

في الختام، الخشية كبيرة جدًا من أن يكون الإصرار على العودة إلى التعليم الحُضوري مُتعثّرًا، وأن يكون التعليم عن بُعد غير مُؤمّن ولا عملانيًّا في ظلّ الظروف الراهنة، الأمر الذي يُهدّد بضياع السنة الدراسيّة الطالعة. وفي أفضل الأحوال، أي في حال جرى "الترقيع" وفق الأسلوب اللبناني المَعهود، لجهة التوجّه إلى المدارس لبضعة أيّام بما تيسّر على صعيدي الشكل والمَضمون، ولجهة تحميل التلاميذ الدُروس والفروض إلى المنازل بما تيسّر أيضًا، سيكون المُستوى التعليمي هذا العام مُتدنيًا جدًا. إنّها مأساة مُستمرّة ومَفتوحة تطال مُختلف القطاعات في لبنان، والقطاع التربوي لن يكون إستثناء!.